"نظريات الأمننة في مجال العلاقات الدولية : من مدرسة کوبنهاجن ونحو نظرية اتصالية مقترحة لدراسة الأمننة" "Securitization theories in International Relations Field : From Copenhagen School and toward a suggestive communication Theory for studying the Securitization"

نوع المستند : مقالات سیاسیة واقتصادیة

المؤلف

جامعة الاسکندرية،کلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية

المستخلص

يستهدف هذا البحث الوقوف على حقيقة الدور الذي من الممکن أن تلعبه کافة النظريات التقليدية وغير التقليدية في تفسير ظاهرة الأمننة في مجال العلاقات الدولية، ووضع اللبنات الأولى لنظرية اتصالية مقترحة لتفسير ظاهرة الأمننة، وذلک بهدف تجنب الأخطاء والانتقادات التي تعرضت لها کثير من النظريات المعنية بالدراسات الأمنية في مجال العلاقات الدولية. وتمکن مشکلة الدراسة- في ظل هذا الزخم من التنافس بين التيارات الفکرية حول تفسير ظاهرة الأمننة- في تساؤل رئيس قوامه: أي المداخل والنظريات أکثر ملاءمة لتفسير ظاهرة الأمننة في مجال العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين؟. وتقيداً بموضوع البحث(وهو ظاهرة الأمننة)، والهدف منه سوف يرتکز الباحث على المنهج الاختباري في مجال الدراسات السياسية، إذ إنه يعد أکثر ملاءمة من غيره من مناهج المعرفة السياسية الأخرى في دراسة الظاهرة محل الدراسة، فضلاً عن أن الباحث سوف يستعين ببعض المداخل المعاونة والنماذج وفي صدارتها النموذج الاتصالي لکارل دوتش، وبعض الأدوات حال أداة المقارنة، وذلک لمساعدة الباحث في الوصول لهدفه من الدراسة، وتمکينه من اختبار فرضيتها، والتي تقوم على تصور قوامه: إن النظرية الاتصالية أکثر ملاءمة من غيرها من النظريات في دراسة ظاهرة الأمننة في القرن الحادي والعشرين. ولتحقيق الغرض من البحث سيتم تقسيمه إلى: مبحث أول: وفيه سيتم العرض لنشأة ظاهرة الأممنة في مجال العلاقات الدولية ومفردات نظريات الأمننة. ومبحث ثاني: بعنوان نظريات الأمننة في مجال العلاقات الدولية. وأخيراً خاتمة الدراسة: وسيتم عرض فيها إلى ما خلص إليه البحث من نتائج.

الكلمات الرئيسية

الموضوعات الرئيسية


 

الــمقدمـــة:

       تصنف المؤلفات المعنية بالدراسات الأمنية في مجال العلاقات الدولية إلى مدرستين رئيسييتن، هما: المدرسة التقليدية وينضوي تحت لوائها اتجاهات تنظيرية على شاکلة الواقعية بنسخها(التقليدية والبنيوية والکلاسيکية الجديدة)، والمدرسة الثانية وتسمى بالمدرسة غير التقليدية Non-traditionalist school of security studies in International Relations، التي راح أنصارها يرکضون وراء کل جديد في مکامن الأمن لم يلمسه سالفوهم من التقليدين وعزموا على إلباس مفهوم الأمن أثواباً فضفاضة وعمدوا إلى کسوة سياساته بصبغ غير الصبغ المعهودة. وأخذوا ينحتون مفاهيماً جزلة ويشتقون افتراضات فريدة تستقيم مع مذاهبهم الجديدة، وطرحوا أفکاراً جديدة على شاکلة أن الأمن بناء اجتماعي (social construct) أکثر منه مجرد مصطلح يحمل في طياته بعض الخصائص، وانجروا وراء الترسيخ لمحورية الإنسانcentrality of humanity أو الأمن البشري human security في التحليل بدلاً من الدولاتيةstatism أو محورية دور الدولة في التحليل الذي يؤمن به التقليديون، وفندتUNDP عام 1994 الأمن البشري في سبعة صنوف، وهي الأمن السياسي، والأمن الاقتصادي، والأمن المجتمع الدولي، والأمن الغذائي، والأمن الشخصي، والأمن الصحي، والأمن البيئي . وبأي حال من الأحوال يمکن تقسيم النظريات والمدراس المعنية بتفسير ظاهرة الأمننة في مجال الدراسات الأمنية والدولية إلى مدرسة کوبنهاجن، ومدرسة باريس، و مدرسة أبيريستويث، واستکمالاً للتطور الذي شهدته الدراسات الأمنية يقترح الباحث نظرية اتصالية لتحليل السلوک الأمنني؛ إذ يعتقد الباحث بأن هذه النظرية أکثر ملاءمة من غيرها من النظريات الأخرى في تفسير ظاهرة الأمننة في مجال العلاقات الدولية، وهذا ما سنتناوله في البحث، وذلک بعد التعرف على مفردات نظريات الأمننة ونشأتها في حقل العلاقات الدولية، وذلک على النحو الآتي:

المبحث الأول-مفردات النظريات الأمنية ونشأتها.

     وسوف نتناول هذا المبحث من ثنايا نقطتين رئيسيتين، وهما: نشأة نظريات الأمننة وجوهرها في قطاع الدراسات الأمنية والدولية، وکذا المفردات أو الرکائز التي ترتکز عليها نظريات الأمننة في قطاع العلاقات الدولية، وذلک على النحو الآتي:

أولاً- نشأة نظريات الأمننة وجوهرها

 يعد مفهوم الأمننة من المفاهيم الحديثة العصيبة على الصياغة الدقيقة، ومحلاً للخلاف بين المنظرين في الوقت ذاته ”an essentially contested concept”، ولعل العلة في ذلک-کما أکد روني ليبشتز Lipschutz. D Ronnie- هي الصراع الذي اطلخم بين المنشغلين بعلم العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، ذلک الصراع الذي لم يقل في ضراوته عن الصراع بين الأمم والقوميات المتباينة المذاهب والأيديولوجيات. وتجسد هذا الصراع في المناوشات التي دارت بين ما يسمون بالقصنيفيين ‘narrowers’ ( الذين اختذلوا المفاهيم الأمنية على النواحي العسکرية) وبين ما ينعتون بالتوسعيين" “wideners الذين صبوا جل جهدهم على تضمين مفهوم الأمن أبعاداً غير عسکرية إلى جانب الأبعاد العسکرية. والحق أنه ثمة تيارات فکرية في صدراتها: النسوية والجندرية ساهمت في ترسيخ أقدام التوسعيين، إذ نجم عن هذه التيارات الفکرية التغير في طبيعة الأمن(من کونه يحمل معاني ذات طبيعة إيجابية وسلبية معاً)، وکذا التغير في نطاقه(من کونه بات يشمل مجالات کثيرة وحلال عدة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية) .

       ولقد برزت نظرية الأمننة في ثمانينيات القرن المنصرف في ظل نسق ثنائي مفعم بالتوتر بين قطبيه، وبمواکبة أجواء دولية حبلى بالصراع المرتکز إلى بواعث أمنية، على يد مؤلفات Ole Weaver ذلک الرمز اللامع في مجال الدراسات الأمنية، والذي سعى بمشارکة رفيق دربه بري بوزان إلى وضع اللبنة الأولى في صرح مدرسة جديدة الطرح في المجالات الدولية والأمنية عٌرفت بمدرسة کوبنهانجن للدراسات الأمنية.

       ويتمحورجوهر نظرية الأمننة Securitization theory حول تبيان أن السياسات المؤطرة للأمن القومي للدول ليست سياسات مفروضة على الدول وليست أمراً معطاً مسلماً به في حد ذاته، ولکنها سياسات مصممة من قبل السياسين وصناع القرار(أو ما يعرف بالفاعل المؤمنِنa ‘securitizing actor’ ) حينما يقومون باستغلال ظرفاً دولياً ما بتصويره للمستهدفين بهذه السياسات کما لو أنه أمراً جللاً أو تهديداً بالغ الضراوة أو جائحة مهلکة تدق ناقوس الخطر .

      ويؤمن عتاة المؤمننين بأنه حتى لا يقع الباحثون في براثن السطحية وحتى لا يخوضون في خثرود الکلم ومن أجل التمکن من عرض الحقيقة على أصولها والتحيز إلى جادة الصدق، والاهتداء إلى طريق المعرفة وسبر أغوار حقيقة الواقع والبعد عن التيه في بيداء الوهم، عليهم أولاً وقبل کل شيء الوقوف على الأسلوب أو البناء الخطابي”the rhetorical structure of decision makers “لمؤمننين(أو صناع القرار) . والأسلوب الخطابي " a speech act" هو العامل الحاسم في فعالية السياسة الأمنية، إذ إن صياغة سياسات الأمننة لا يستقيم معها الخطب الطنانة ولا ترهات الأباطيل ولا شغافيل ولا حتى الوقوف على حقيقة الواقع کما هو بالفعل، بالقدر الذي يتطلب من "الفاعل المؤمنن" تشکيل الحقيقة بيده ويثخن في خطورتها على الصورة التي تؤثر على سيکولوجية المخاطبين وخوالجهم من ثنايا تحويل الحدث أو الموقف من مجرد موقف عادي يقع في مستوى الإطاقة(أو في إطار ما يعرف بالسياسات الدنيا) إلى مستوى يفوق حد الطاقة أو فوق العادة(أو في إطار ما يعرف بالسياسات العليا) .

       ويشترط کوکبة من المنظرين لفاعلية سياسات الأمننة التوافق الجمعي للجمهور المخاطب حول شدة وطئة وخطورة التهديد الذي يمثله الموقف والشعور بالخوف والهلع الذي يثيره في نفوسهم والذي يستجلب الغوث. وتحقيق ذلک ليس أمراً سهل المراس، إذ يقطع هؤلاء بضرورة أن تقوم بنية الخطاب المؤمنن الموجه للجمهور على عدة رکائز منها: التهديد الأمني ، وضاغطيته، وأن يشکل خطراً فرسخياًexistential threats. وهذه الشروط وما تمثله من صعوبة في التطبيق العملي ساقت بعض الثقات في الدراسات الأمنية إلى التشکيک في مدى جدوى هذه السياسات، وحدجوهم بأسهم النقد مروجين لفکرة مفادها: أن الحفاظ على اقناع وحواح ومتماسک لدى الجماهير في الأثر البعيد أمر صعب المنال تماماً کحال الجريض دون القريض .

     وطالما أن سياسات الأمننة سياسات ذاتية تقديرية، فمن الطبيعي أن تسفر عن إزدواجية المعايير، على سبيل المثال بعض السياسات الداعية إلى الحرب العالمية على الإرهاب تصور بعض الدول العربية کما لو أنها راعية للإرهاب، وتوصم العربي بالرجعية والتزمت وتهديد الآخر؛ الأمر الذي يسترعي اتخاذ سياسات من شأنها فرض الوصايا أو الرقابة أو التدخل في الشأن العربي، في حين يغض کثيرون من صناع هذه السياسات الطرف عن ممارسات عدة في مناطق متفرقة من العالم والتي يمثل بعضها فعلاً تهديداً لأمن بعض الشعوب وتکديراً لصفوها، ومن هنا يمکن القول بإن: سياسات الوصايا أو الرقابة هذه تمثل جهازاً أمنياً بمقدوره أن يفرض الأمن ويحقق الاستقرار وهو ذاته من ناحية أخرى من الممکن أن يشکل مصدراً تهديدياً للأمن .

    وتلاقت أراء دعاة نظرية الأمننة حول مجالات اهتمام تلک النظرية، وحصروها في المجالات السياسية والاقتصادية والعسکرية والاجتماعية والبيئية. وتجدر الإشارة إلى أنه رغم الاختلاف حول مضامين سياسات الأمننة في المجالات المذکورة، بيد إنه ثمة قاسم مشترک وينبوع واحد تنبجس منه مثل هذه السياسات يتمثل في بروز تهديد ما يُضخم من قبل المؤمنن إلى الحد الذي يرقى إلى مستوى الخطر المحدق الذي يٌحاک لشيء مرجعي) (a referent object أو قضية محورية. ومن المعلوم بالضرورة أن القضية المحورية أو المرجعية هذه ليست واحدة في المجالات المختلفة: على سبيل المثال تتصدر الهوية القضايا المحورية في المجال الاجتماعي، کما تقف الفصائل المهددة بالانقراض والنظام البيئي على سنمة القضايا المحورية في ظل المجالات البيئية، في حين تظل الدولة القضية المحورية الأظهر والأبرز في المجالات العسکرية .

   ودراسات الأمننة تضرب بجذورها إلى عقد الثمانينيات من القرن المنقضي، حينما وقعت أحداث نجم عنها التغير الجذري والهيکلي في المفاهيم الأمنية على الصعيدين النظري والعملي، مما حدا ببعضهم وفي مقدمتهم ستيفن والت إلى وسم ذلک العقد بمرحلة نهضة الدراسات الأمنية.

ثانياً -المفردات التي تقوم عليها سياسات ونظريات الأمننة

1-الجمهور المخاطب أو المستهدف(Audience )

    يعد مفهوم الجمهور المخاطب من المفاهيم المحورية الأساسية التي تبنى عليها افتراضات نظريات الأمننة، غير أن هذا المفهوم يکتنفه الغموض محفوف بفيض من اللغط، وليس بالقدر من البساطة التي ربما تخيل إلى أحدهم، وهذا ما أفصح به غير واحد من کبار عتاة هذه النظرية، وفي هذا المضمار يقول بوزان ورفاقه: "إنه ليس بمقدورنا نعت قضية ما بالأمننة لم يستقبلها الجمهور المستهدف على أنها موضوع مؤمنن، ومن المدهش على الرغم من حيوية هذا المفهوم، بيد إنه من المفاهيم التى لم تلق حظها الکافي من التطوير والعناية، وأن لم يکن أقلها على الإطلاق من بين المفردات الأساسية التي ترتکز عليها نظريات الأمننة." وفي سياق متصل عکف ويلم Williams على تقصي حقيقة محورية هذا المفوم في جنابات مجلدات الأمننة لا سيما الکوبنهاجنية منها، فخلص بنتيجة قوامها أن مفهوم الجمهور المخاطب ترک تحت التطوير في مصنفات مدرسة کوبهاجن the concept of audience has been left ‘radically underdeveloped’ ، وباعتراف منه بهذه الحقيقة أقر ويفر" Waever" –وهو أحد أبرز رموز هذه المدرسة-بأن مفهوم الجمهور المخاطب بحاجة إلى مفهوم أکثر وضوحاً واستيعاباً في الوقت ذاته نظراً للاختلافات التي تعتري هذا المفهوم the term ‘audience’ requires ‘a better definition and probably differentiation’

      وراح سالتر Salter يستن بسن سابقيه ممن أعزوا الفشل في التوصل إلى مفهوم واصخ للمجهور المخاطب إلى الانتاج العلمي المحصرم لمدرسة کوبنهاجن، إذ راح يکشف النقاب عن أن رغم أن مدرسة کوبهانجن بما لها من سبق في مجال دراسات الأمننة، غير إنها عجزت عن التوصل إلى مفهوم واضح ناصع ناطع لمفهوم القبول عند المخاطبين audience acceptance (وهو أحد العوامل المسئولة عن فعالية سياسات الأمننة وانتاج ثمارها)، إذ إنه يؤکد أن هذا المفهوم في الدراسات الکوبهاجنية ترک ولم يحدد بعدد، ولکنه قيد التحديد ، وقاسمه في ذلک الرأي Macdonald وزاد عليه أن مفردات وافتراضات نظريات الأمننة مازالت قيد التنظير والتمحيص “under-theorized’ .

      والحق ثمة عوامل عدة حالها حال الجريض دون القريض تقف حجر عثرة في وجه التوصل إلى صيغة واحدة تحظى بقبول جمهور منظري الأمننة، ولعل من أظهرها ،بل وصاحبة النصيب الأوفر على الإطلاق ولا يضارعها في ذلک عامل هي المشقة التي تبلغ بالباحثين إلى مستوى الجهد التي يعانونها من وراء البحث عن مؤشرات جلية قابلة للقياس أو التقدير على أقل تقدير للفرضية الأساسية التي تمثل عصب الخطاب الأمنني والتي بها يتسع نطاق جمهور المخاطبين أو يضيق ألا وهي شرطية توافر الخطر المحدق الذي يرقى إلى مستوى التهديد الوجودي the existential threat في الخطاب المنساب من الخطيب الأمني إلى الجمهور، ومن هنا تنکشف أمامنا أول کوة نطل منها على الحقيقة الوضاءة للعوامل المفضية إلى غموض مفهوم الجمهور ونطاقه، وهي أن نطاق الجمهور يضيق ويستع وفق إدراکهم وشعورهم(المتباين بينهم بالطبع) بمدى خطورة موضوع التهديد وأن انعقاد الإجماع على مؤشرات رضاه وقبوله signs of acceptance’ أمر يصعب بلوغه، الأمر الذي يجعل من إماطة اللثام عن حقيقة الجمهور المستهدف أمراً صعباً والإدعاء بالتمکن من إحصاءه بالکامل أراجيفاً واجتهاداً مغلوطاً .

       ويعوق التوصل إلى مفهوم للجمهور عائق آخر وهو الذاتية subjectivity حيث طريقة عرض الخطاب الموجه إلى الجمهور تتأثر بشخصية الفاعل المؤمنن، فضلاً عن أن هناک تداخلاً ذاتيا intersubjectivity ناجم عن أن عملية الأمننة تقوم في جوهرها على التفاوض بين الفاعل المؤمنن الذي يصدر الخطاب والجمهور المخاطب الذي يستقبله، وفي هذه العلمية تتفاعل الذاتيات؛ الأمر الذي يصعب على متخذي القرار کما الباحثين التوصل إلى الاتفاق حول مفهوم موحد للجمهور. کما أن الجانب المعرفي لدى الأفراد أو الجمهور المخاطب قد يشکل سلاحاً ذا حدين، فهو قد يشکل عائقاً أمام فعالية سياسات الأمننة من ناحية، ومن ناحية أخرى بمقدوره أن يشکل عاملاً داعماً لسياسات الأمننة وتربة خصبة لنموها وشرعنتها. على سبيل المثال السياسات التي کان يصنعها رئيس الوزراء البريطاني توني -بلير لشحذ همم البريطانيين والأمريکان لتهيئة المجتمعين لقبول فکرة الغزوالأنجلو/أمريکي للعراق- رفضها أغلب المواطنين من خلال قياسات الرأي العام(والذي شکل عامل مقوض لهذه السياسة)، في حين وجدت من يدعمها ويروج لها ويشرعنها من أعضاء البرلمان الإنجليزي .ومن الجدير بالذکر أنه على الرغم من الصعوبات هذه التي تحول دون الاهتداء إلى مفهوم واضح لا ريب فيه ولا اختلاف عليه بين جميع المنظرين ، إلا إن بعضهم حال Salter –آملاً في إحراز تقدماً في صياغة هذا المفهوم- صاغ مفهوماً بسيطاً للجمهور، حيث إنه عدد الفئات التي يشملها هذا المفهوم وحصرها في الشعب والصفوة والتکنوقراط والمراکز العلمية .

2-علاقات القوى

    تعبر علاقات القوى في مجال الأمننة عن علاقة التأثير والتأثر بين طرفي الخطاب الأمنني ، وهما: الفاعل المؤمنن والمخاطب المستهدف. وفرق الجهد بين طرفي العلاقة(والذي يکون في صالح الطرف الأول عادة) هو المسئول الأکبر عن التحرکات أو الأفعال المؤمننة a securitizing move . وفي هذا المضمار يزعم ويليمز Williams أن التحرکات المؤمننة تنجم عن تفاوت قدرات الفاعلين على النحو الذي ينتج من الخطابات المفوهة المروجة لوقوع خطر وشيک الحدوث أثاراً اجتماعية يشهدها الواقع . کما ذهب بعضهم أمثال Balzacq إلى أن المفهوم الأوسع لعلاقات القوى بين طرفي الخطاب الأمنني هو ذلک المفهوم لا يتجاهل قبول أو رفض الجمهور المستهدف لتحرکات الأمننة المشأوة من صانعي القرار أو الفاعل المؤمنن

3-المحتوىcontext

      لا امتراء في أن محتوى الخطاب الأمنني يمثل عاملاً مؤثراً ومفسراً في الوقت ذاته للتحرکات المؤمننة securitizing moves: فخصائص المحتوي الخطابي(بنوعيها: الأنوتولوجي والأبستومولوجي) هي الينوع الذي يتفجر منه البواعث المحرکة لمشاعر الجماهير، لذا يعول کثير من المنظرين کثيراً على مدى نافذية الخطاب الأمنني وتحقيق جدواه .

وتکمن الدوافع الأونتولوجية للخطاب الأمنني في الجواب عن سؤال قوامه: مما يتکون محتوى الخطاب الأمنني؟، بينما تشير الخصائص الأبستومولوجية إلى العلة الکامنة وراء نجاح الخطاب الأمنني في إحداث تحرکات مؤمننة في مواقف ولما لم يؤت آکله في مواقف أخرى؟ .

     وفي معرض حديثه عن الخصائص الأونتولوجي لمحتوى الخطاب المؤمنن راح بوزان ورفاقه يصبون جل ترکيزهم على طبقات المحتوى layers of the context ، وفرقوا –استناداً إلى هذه الطبقات -بين معيارين للمحتوى الأونتولوجي للخطاب المؤمنن، وهما: معيار القطاعات المترادفة((synonymous with sectors أي تصنيف الخطابات إلى قطاعات متخصصة عسکرية سياسية اقتصادية اجتماعية ....)، ومعيار "الظروف التاريخية المولدة لتهديدات" ‘conditions historically associated with the threat’، وبنى Balzacq تصوره عن هذا النوع من الخطاب على افتراضات کل من Schegloff and Wetherell ، وجاء لنا بضربين للسياق أو المحتوى الأمنني وهما: السياقين القاصي والداني(A proximate context and distal context)، ويتضمن السياق الداني -أو کما يحلو للبعض أن يطلق عليه المحتوى الداخلي- الخصائص الآنية للتفاعل بين مفردات الخطاب the immediate features of the interaction’، ويعنى غالباً بترصيع الکلام على النحو الذي يهيء المستهدفين للقيام بفعل معين کالتمجهر أو الاجتماع أو الاصطفاف بشأن أمر ما وغير ذلک من الأمور. بينما يعبر السياق القاصي أو الخارجي للخطاب عن البناء الاجتماعي/الثقافي الکلي الذي يسوق الطبقة المستهدفة إلى الممارسة المؤمننة، ويتضمن مفردات على شاکلة الطبقة الاجتماعية أو الترکيبة العرقية للأفراد المستهدفين والمواقع والمؤسسات التي تقع في حيز الخطاب المستهدف، والنُطُق الثقافية والإقليمية والأيکولوجية . واستهجن ثلة من الباحثين هذه الطريقة، إذ راحو يؤکدون أن الارتکاز على الخصائص البنائية للمخزون الدلالي للألفاظ ‘semantic repertoire’للمحتوى الأمني أنجع من الارتکاز على طريقة السياق الخارجي، ولعل العلة عندهم في ذلک- وفي صدراتهم Balzacq – أن المخزون الدلالي للمحتوى الأمنني يتألف من المعنى النصي textual meaning(ويشير إلى المعرفة اللغوية للمصطلحات) والمعنى الثقافي cultural meaning(والذي يعکس المعرفة التاريخية الناجمة عن تفاعلات سابقة أو أحداث ومواقف جارية. وذلک على اعتبار أن إدارک المفاهيم الأمنية يأتي متأثراً بالثقافة والخبرات التاريخية للمجتمعات ، بعد أن تعرفنا على المفردات التي تقوم عليها نظريات الأمننة، سوف نعرض في السطور التالية لنظريات الأمننة في مجال العلاقات الدولية.

المبحث الثاني-نظريات الأمننة في مجال العلاقات الدولية

       بادئ ذي بدء نشير إلى أن ثمة تمايز بين لفظتين إنجليزتين طفتا على سطح التنظير في العلاقات الدولية في أعقاب نهاية الحرب الباردة، وهما: “Critical Security Studies (with capital first letters)”و “critical security studies (with small first letters)”، إذ على الرغم من أنهما يحملان نفس تراکب البناء اللغوي، غير إنها يعبران عن تيارين متمايزين في التنظير، حيث تشير الأخيرة(css) إلى قطاع رحب من المصنفات المعنية بالدراسات الأمنية لتيارات تنظيرية عدة(من البنيوية إلى النسوية، ومن البنائية إلى بعد الکولونالية، من المارکسية إلى الجرامشية)فضلاً عن المداخل الناقمة للدراسات الأمنية الکلاسيکية. بينما تعبر الأولى عن تيار واحد وهو دعاة النظرية النقديةCritical Theory’ (من أمثال Max Horkheimer, Jurgen Habermas, Axel Honneth, Robert Cox, and Richard Falk) وتسمى هذه النظرية أيضاً باسم مدرسة أبيريستويث Aberystwyth School”" . وعلى أية حال سوف نعرض لافتراضات نظريات الأمننة في حقل العلاقات الدولية منذ بزوغ تلک النظريات في ذلک الحقل على النحو التالي:

أولاً-مدرسة کوبنهاجن Copenhagen School

     بنت مدرسة کوبنهاجن افتراضاتها على نقد وتمحيص افتراضات المدراس الأمنية التقليدية لا سيما البنائية الاجتماعية والواقعية الجديدة(البنيوية) ، وترتکز نظريات الأمننة على الدور الوظيفي للکلام الذي استعير من النظرية العامة للکلام للمفکر "أوستين" الذي رتب "الأفعال المعزاة إلى الکلم" Speech Acts على ثلاثة صنوف متراتبة، هي

-أفعال اللفظ Locutionary Act: وهي الکلام الخبري الذي يخضع للتمحيص، وتعبر عن ألفاظ عادية تحمل معناً سردياً خبرياً.

-أفعال الأثر Perlocutionary Act : وهي الأفعال الناجمة عن مدى قدرة المخاطب على التأثير في وجدان ومدرکات المخاطبين.

-الأفعال الحقيقية Illocutionary Act: وهي تعکس الأفعال المنجزة فعلاً من جراء التأثر بقوة تأثير الخطيب وقدرته على التوجيه. وبعبارة أخرى تعني أفعلا الحقيقة قدرة المنطوق على انتاج فعل.

        والأفعال الحقيقية التي جاء بها أوستين کانت بمثابة الملهم لنظرية الأمننة عند ويفر وجعلت أبحاثه تتربع عرش مدرسة کوبنهاجن، وتفرد ويفر وقتذاک عن نفر ممن اشتغلوا بمهنة التنظير بأنه ألبس الأمن بزي "الأفعال المعزاة إلى الکلم"، الأمر الذي ساقه إلى صک تعريفاً للأمن منتزعاً من ماهية الأفعال الحقيقية الأوستينية قوامه : إن کافة المعروضات التي تنطوي على مفردات أمنية تقع ضمن الموضوعات الأمنية، وإن الأمن في حد ذاته ليس سوى "فعل معزى إلى کلم". وهذه القوامة التي يقوم عليها مفهوم الأمن عند ويفر لم تؤهله للاحتفاظ بحوزة الموضوعية، وإنما زج به في رحاب الأحکام الذاتية التي خلعت على الأمن صفة الأمننة، ومرد هذه الذاتية التصورات أو الأحکام الشخصية التي يحبکها المؤمنن بحنکة حينما يخرج القضية من مجرد قضية أمنية حقيقة أو حتى وهمية مصطنعة إلى خطر مستفحل فتاک وشيک الحدوث .

      وفي مجال العلاقات الدولية دأبت هذه المدرسة على البحث عن تطوير مفهوم الأمن البنيوي، إذ وسعت من نطاقه وعددت من أبعاده، وبات مفهوم الأمن يشتمل على فاعلين کثيرين وموضوعات عدة، ومجالات مختلفة، ومن هنا يمکن القول: إن محور اهتمام مدرسة کوبنهاجن ينصب حول ثلاثة أمور، وهي: القطاعات أو المجالات الأمنيةSectoral approach، والمناطق الإقليمية المتشابکة أمنياًRegional security complex theory (RSCT)، والموضوعات المؤمننةSecuritization theory .

     ووفق أنصار المدخل القطاعي Sectoral approachمضمون مفهوم الأمن وجوهره ومفهوم أساسه يختلف من مجال لآخر، على سبيل المثال مفهوم الأساس للتهديد في القطاع العسکري هو التهديد العسکري، و يتثمل في القطاع السياسي في تهديد سيادة الدولة، وفي المجال الاقتصادي الانهيار الاقتصادي، وفي المجال الاجتماعي يتثمل في الأمة أو الدين أو العقيدة، وفي المجال الأيکولوجي تهديد الفصائل من الانقراض ، ويتعين الإشارة في هذا المضمار رغم التباين في مفهوم الأمن من مجال لآخرعند أنصار هذه النظرية، غير أن مفهوم الأمن في المجالات کافة يرتبط بالبقاءsurvival.

    وتعني المناطق الإقليمية المتشابکة أمنياً ‘regional security complexes’.مجموعة الدول التي تقع في نطاق جغرافي معين وتترابط مصالحها الأمنية ترابطاً من شأنه أن يجعل من هذه الدول کما لو أنها جسد جغرافي واحد في حال إذا ما داهم أحد أجزاءه(دولة واحدة من دول النطاق) خطر ما فإنه سيستشري في الکل ؛ الأمر الذي يتطلب من الکل التکاتف لمواجهة الخطر مجتمعين لا منفردين . ومن نافلة القول يؤمن أنصار هذه النظرية بأنه ثمة أربعة مستويات للتحليل في مجال العلاقات الدولية، وهي مستوى الدولةState، السمتوى الإقليميRegional، المستوي الإقليمي المتشابکInter-regional، والمستوى الدولي International .

إن القضية المحورية التي تشغل اهتمام المنشغلين بنظريات الأمننة هي الميکانزمية التي تعلم بها عملية الأمننة securitization process تلک العملية التي تبدأ من استلام المؤمنن للخطر مروراً بتصديره للجمهور المستهدف على أنه تهديداً وجودياً إلى مرحلة التغذية العکسية وتقويم جدوي تلک العملية. ولقد أحصي الأباء الروحيون (Buzan, Weaver) خطوات هذه العملية في خطوات عدة، منها :

1-ظهور أمر ما يرقى إلى مستوى الخطر.

2-تقدير المؤمنن لدرجة الخطر فإذا أرتأى أن هذا الخطر ليس بمقدوره أن يهدد الأمن فسيدرجه ضمن عمليات عدم الأمننة، ولکنه إذا قدر أن هذا الخطر من شأنه أن يشکل خطراً جسيماً صار هذا الخطر اللبنة الأولى في باقي عمليات الأمننة التالية، وهي:

أ-تحويل الخطر الجسيم إلى تهديد وجودي.

ب-تطويع العوامل المهيئة وتسخير العوامل المحفزة لاستقبال الجمهور لهذا الحدث على أنه يمثل تهديداً وجودياً.

جـ-استقبال وقبول الجمهور المستهدف للتهديد والاعتراف بوجوده.

د-تقدير المؤمنن لحجم التهديدات الوجودية أو الحدث المؤمنن.

هـ-شرعنة المؤممن کافة الأساليب غير التقليدية المستخدمة للتعامل مع هذا التهديد.

و-تصدير الحياة السياسية في الدولة للجمهور على أنها تشهد ظروفاً استثنائياً وتخضع لحالة الطواري.

ي-التعايش مع التهديد الوجودي.

   ولنظرية الأمننة وجهان، الأول- الأمننة( securitization) ، والثاني: اللاأمننة(Desecuritization ) وهدف الأخيرة أي عملية اللاأمننة هو نصرة من يکونون ضحايا عمليات الأمننة حال المعارضين السياسيين والأقليات والمهاجرين وغيرهم :

     ولعل من أبرز الموضوعات التي حاولت نظريات الأمننة أن تعالجها في نهاية حقبة الحرب الباردة علاقة النزوح/الأمن Migration-security nexus ، حيث ظهرات دعوات تزعم خطورة الطيور البشرية المهاجرة وغيرها من المهاجرين والنازحين على الأمن القومي الأوروبي، وازداد الأمر تعقداً بعد أحداث 11 من سبتمبر حيث أمٌننت قضايا الهجرة والنزوح واستخدمت لأغراض سياسية. وظهرت دراسات عدة تبحث في حقيقة التهديد الذي تمثله الهجرة لبلاد أخرى، على سبيل المثال جاءت دراسة وينيرWeiner لتضع عام 1993 معايير عدة للبحث فيما يمکن أن يترتب على الهجرة من أثار أمنية، ومنها :

-هل تمثل ظاهرة النزوح خطراً أم تهديداً للدولة المضيفة أو المستقبلة؟

-إلى أي مدى يمکن أن تمثل هذه الظاهرة من تهديد أو خطر للهوية الثقافية؟

-هل تمثل هذه الظاهرة خطراً أو تهديداً اقتصادياً؟

- هل تشکل هذه الظاهرة خطراً او تهديداً للجمتع؟

-هل تشکل هذه الظاهرة تهديداً أو خطراً على الدول الموفدة؟

 وجاءت دعوات کثيرة تطالب العالم بتوخي الحذر من ظاهرة النزوح وما يتمخض عنها من أثار سلبية وعواقب وخيمة على أمن الدولة المستقبلة، ولعل من أبرز هذه الدعوات الدعوة التي قدمها السياسي البارع وعضو مجلس النواب الأمريکي توم تانکريدوTom Tancredo التي ندد فيها بأخطار النازحين على المجتمع الأمريکي وتماهى في ذلک إلى الحد الذي وصفهم بالغزو الصاتم “silent invasion‟ للولايات المتحدة الأمريکية. وأضاف آخرون أن ظاهرة النزوح ظاهرة مهددة للأمن القومي للدول القومية لما تخلفه من فيروسات بشرية أو جرائم اجتماعية قد تعصف باستقرار الأمم، وذلک نظراً لکونها قد تشکل من معاقل للإرهاب، أو قد تمثل سوقاً للاتجار بالبشر، أو تنشأ باحة للاختطاف والجريمة. ولعل تصريحات ترامب بشأن النزوح المکسيکي للولايات المتحدة، وحالة الذعر التي صورتها مارجريت تاتشر ذات مرة بشأن الهجرة غير الشرعية من هذا الطرح ليست ببعيدة .

ثانياً-المدرسة الفرنسية أو مدرسة باريس Paris School

    لقد وضع حجر الأساس لهذه المدرسة المفکران الکبيران(Pierre Bourdieu and Michel Foucault) ، ومثلت کتاباتهم الدستور الذي اهتدى به کثير من فحول هذه المدرسة ولکل من اعتنق مبادئها. وتقوم هذه المدرسة على فرضية قوامها: إن الجهاز المهيمن والمتحکم في کافة السياسات من الإجراءات البيروقراطية التقليدية التي روتينيا يومياً وحتى السياسات الأمنية المتخصصة هو الحکومة لا غيرها. ومن ثم تفترض هذه المدرسة کذلک أن السياسات الأمنية لا يمکن فصلها عن سياقها الحکومي وهي تعطي وزناً نسبياً أکبر للممارسات الأمنية على حساب الجوانب الخطابية أو الأساليب الکلامية وإن کان کلتاهما تنسدل من مأسسة الأمن . کما يرکز الأسلوب الخطابي على النواحي الممارسية والجمهور والمحتوى أکثر من اهتمامه بالجوانب التقليدية والاستخدامات المادية.

     ويتمتع التصور الأمني عند دعاة هذه المدرسة –وفي مقدمتهمFoucault- بخصائص عدة،منها: إنه يمثل أداة أو تقنية حکومية” “a technique of government، وهو انعکاس لميزان القوة القائم بين المشارکين في اللعبة السياسية “power games” أکثر منه انعکاس لنواياهم “intentions” أو دوافعهم. والقدرة على منطقة الخطاب المتعلق بالخصم على النحو الذي يدنو من التصور الذهني للجمهور المستهدف عن هذا الخصم .

         وتتمثل الأمننة “securitization” في مخيلة عتاة هذه النظرية فيما تنطوي عليه عملية صنع الأمننة “Insecuritisation” وما تسفر عنه من جملة الممارسات الواقعية a set of practices: وجوهر عملية صنع الأمننة “Insecuritisation” هو أن عملية الأمننة تقع في إطار الفن والتقنية الحکومية “technique of government” لاسيما في ظل المجتمعات الحديثة حيث يشيع انتشار المعرفة الأمنية “security technology”، والخبرة المعرفية “expert knowledge” بکثير من المخاطر والتهديدات بين أوساط العلاقات الاجتماعية ، وتتشابه في ذلک عملية الأمننة عند البارسيين والکوبنهاجنيين، إذ تصبح الفرصة سانحة أمام أمننة قضية ما فور ما تمکنت الحکومة من تهويل الخطر وشيک الحدوث وتقديمه کمادة خطابية للتأثير في مشاعر وأفعال الجمهور المستهدف. وبعبارة أخرى فإن المدرستين تتفقان في أمننة القضايا أنتولوجياً وتختلفان ابستومولوجياً(نظراً لترکيز مدرسة کوبنهاجن على تسويق الخطاب المؤمنن، في حين يصب الفرنسيون جُل جهدهم على الجانب الممارسي للسياسات الحکومية المؤمننة.)

      وبرز الترکيز على الجانب الممارسي للسياسات الحکومية المؤمننة عقب انهيار القطب الثاني(الاتحاد السوفياتي) في النسق الثنائي وبعد أن رفع شعار انتصار الليبرالية “triumph of liberalism”وأسدل الستار عن أکثر فصول الصراع الأيديولوجي ضراوة في العصر الحديث، وتحولت بوصلة ووجهة الدراسات الأمنية- بعد أن تربعت قوة وحيدة (الولايات المتحدة)على سنمة النسق الأحادي ودانت لها جل القوى الدولية الأخرى وسارت في رکابها- إلى البحث عن” “ internal security agencies وکيل داخلي للأمن تعلق عليه الدول خطاباتها و سياساتها المؤمننة بدلاً من عناء البحث عن أعداء خارجيين enemies’ outside the borders، و لعل من أجلى الأمثلة على ذلک التحول في الخطابات المؤمننة بعد أحداث 11سبتمبر .

      وتؤکد المدرسة الفرنسية أنه قد تلجأ بعض القيادات السياسية في عملية صنع السياسة الأمنية إلى أمننة موضوع ما يقع داخل أراضيها أو خارج حدودها سواء أکان موضوعاً قائماً بالفعل أو مختلقاً لأجل کسب أو إضفاء شرعية على النظام القائم legitimate truth” “ أو للفت انتباه العالم الخارجي لغرض ما يصب في اتجاه صالح النظام الحاکم، على سبيل المثال أمننة سياسات الهجرة “the securitisation of migration”، والترويج والتهويل بشأن ما يمکن أن تثيره من تهديد للأمن القومي للدولة ونسيجها الاجتماعي : أي أن سياسات الأمننة في ظل المدرسة الفرنسية أداة حکومية للسيطرة على الجماعات والأفراد لتحقيق هدف معين، في حين تستهدف سياسات الأمننة عند مدرسة کوبنهاجن حث الأفراد على القيام بتصرفات أو تحرکات جديدة ، ويعرف أنصار الأخيرة بالاستثنائيين”exceptionalist” نظراً لاستغلالهم ظرف استثنائي لتحريک الجماهير، في حين يعرف أنصار الأولى بالتوجيهيين “diffuse” نظراً لاعتماد الحکومة على سياسات الغرض منها النشر والتوجيه لموقف يوسم بعدم التأکد أو خطر وشيک الحدوث وذلک بغرض حکم الجماعات الاجتماعية أو الجماهير .

ثالثاً-مدرسة أبيريستويث Aberystwyth School”"

     تعرف مدرسة أبيريستويث بمدرسة ويلش the Welsh School))، ولقد أرسى قواعد هذه المدرسة خلال حقبة التسعينيات الجهباذان الخبيران بالغوامص الأمنية Ken Booth and Richard Wyn Jones a . وتقوم هذه المدرسة (بوصفها واحدة من أنصع صور اتجاه ما بعد الوضعية a post-positivist approach)على مفهوم أساس ألا وهو التحررية “emancipation”، ويقطع جهابذة هذه المدرسة بالعلاقة الکاثوليکية الطابع بين النظرية وسياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية، لذا يروجون لضرورة الانسلاخ والتجرد من هذه السياقات في حال الرغبة في التوصل إلى بناء نظري يستهدف الکشف عن حقيقة العالم ويحملون على عاتق النظرية الاضطلاع بمسئولية القيام بدورها الإرشادي التوجيهي لترسيخ دعائم الأمن الإنساني ”the security of humanity” .وهذا الدور التوجيهي لابد أن يکون مشفوعاً بتصور القيادات السياسية أن تحقيق الأمن يتعين أن يکون من ثنايا سياسات مجردة من التعصب القومي ومنسلخة من نعرات السيادة القطرية على النحو الذي يهيء لبروز مجمتع إنساني يسع المجتمعات الإنسانية المتمايزة کافة بکافة مستوياتها وروابطها .

وتقوم هذه المدرسة على افتراضات عدة، منها: أن مفهوم الأمن من المفاهيم المشتقة الذي يتمايز في مضمونه وخصائصه عن کثير من افتراضات النظريات الأخرى. وجوهر مفهوم التحرر عندهم هو تحرر الأفراد(فرادى وجماعات) من القيود المادية والبشرية التي تقف أمام نزواتهم ورغباتهم، ومن أبرز هذه القيود الفقر المدقع والقمع والتنکيل السياسي، فلا غرو هنا أن هذا الافتراض يحمل في طياته الجمع بين الحرية والأمن عند دعاة هذه المدرسة، إذ يتصورون أنه حيثما توافرت الحرية حل الأمن وساد وعم .

       ويبدو أن مفهوم الأمن –من الناحية الأبستومولوجية-عند مدرسة"A.S" يخرج من نفس المشکاة التي يخرج منها هذا المفهوم عند الوضعيين، بيد أنه لما لهذه المدرسة من موقف من الاتجاهات الموضوعية التجريدية -المروجة لفصل الحقيقية عن سياقها القيمي- فلقد أضفت على مفهوم الأمن أبعادأً جديدة تجذرلخصوصية الحقائق والوقائع الاجتماعية المشکلة بعامل التصورات الذاتية المتقعرطة .

       والحق أن الأمن والتحررية عند دعاة هذه النظرية وجهان لعملة واحدة، إذ إن أمن الجماعة الدولية مروهون بتحقيق الأمن العالمي، ولا يتحقق الأمن العالمي إلا من ثنايا التحرر من القيود التي تکبل الأفراد، وذلک من ثنايا دعم المساوة والترسيخ للقوة الإنسانية، والإلتزام غير المتحفظ بحقوق الإنسان، والوفاء بالوعود السياسية وعدم التنصل منها ، ونتيجة هذا التحيز للسياسات التحررية، والتقيد ببعض الافتراضات الواقعية سميت هذه المدرسة بالواقعية التحررية “emancipatory realism” ، ويساق في هذا المساق سؤال أولى أن يطرح ألا وهو هل التصور الأمني للواقعية البنيوية هو ذاته عند الواقعية التحررية ؟ إن الحقيقة التي لا تخالها خالجة ولا تنازعها أدلة معتبرة تجتمع على معنى واحد يفيد القطع هي أن ثمة اختلافات کبيرة خاصة بأمور جلل(منها:ماهية الأمن) جديرة بالدراسة والبحث، وليس منبع الخلاف بينهما- کما يروج له بعضهم- تصفية حسابات وحسم خلافات وکسب نقاط إضافية في صراعات ممقوتة.

   وجوهر الخلاف بين تينک المدرستين أو النظريتين حول أبعاد مفهوم الأمن يرتد إلى عدم إلتقائهم على نقاط مشترکة حول ماهية الفاعل الأمني "security agent" ، حيث يتصور أنصار الواقعية التحررية الفاعل الأمني في الأفراد لاسيما النخبة المثقفة Individuals, specifically intellectuals” “، ولا يضع النقديون حداً فاصلاً بين الفاعل والمحلل، حيث يکون في کثير من الأحيان المحلل عندهم هو نفسه الفاعل الأمني في الوقت ذاته ، وعلى أية حال فإن الفاعل الأمني عند أنصار هذه المدرسة ينحصر في النخبة المثقفة نظراً لقدرة هذه النخبة –وهم في ذلک يتفقون مع التصور الجرامشي لدور الطبقة المثقة- على التصدي لهيمنة السلطة على الخطاب المحرک للسلوک المؤمنن، وذلک لما يملکون من جوامع الکلم وحقائق الأمور، مستخدمين في ذلک وسائل إقناعية على شاکلة قدرتهم -وهم بذلک أکثر جرأة من غيرهم –على قول الحق “ “speak truth to power”في بلاط الحکم حتى لو کان الحاکم جائراً هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قدرتهم على تقديم مادة نقدية معتبرة ومفندة“Immanent critique” ومؤثرة في مشاعر الجماهير لاسيما في الأمور ذات الصلة بالسياسات التحررية.

       وتعد أمثل طريقة لتعريف الأمن عند رواد هذه المدرسة –کما أکد بووث Booth))- هي الطريقة التي تقوم على الوقوف على حقيقة الظروف المحيطة والعوامل المحرکة والبواعث المفضية لعدم الشعور بالأمن أو حالة اللاأمن التي قد تعاني منها الجماعة أو الأفراد في أي مجتمع من المجتمعات. ويتحقق الأمن وفق رؤيته حينما يؤمن الأفراد فرادي وجماعات بحق غيرهم في التنعم بالأمن والنأي بأنفسهم عن استخدام أي وسيلة تجردهم من ذلک أو تحجب عنهم ذلک، وکما يؤکد على أن الأمن القومي للدولة يتعين ألا يستهدف فقط بقاء الدولة ولکن حياة وتقدم شعوبها کذلک .

     ويتحقق الأمن العالمي وفق هذه النظرية من ثنايا وصل الحلقة المفقودة بين بيئة السلام والاستقرار داخل الدول أو النظم السياسية والبيئة الدولية التي يغلب عليها الطابع الفوضوي، والخلية الأولى في جسد الأمن العالمي هي الأمن الشخصي أو الفردي، ويتحقق الأمن الفردي أو الشخصي تحت مظلة المجتمعات البشرية المتحضرة “civilised human” حيثما يتوافر المناخ الملائم والتربة الخصبة لترعع ذلک النوع من الأمن وذلک نتيجة التقيد أو الإثناء الذاتي “self-constraint” المتحقق بعامل الحيلولة دون وقوع الضرر المتبادل mutual harm” “، وحينما ينتشر هذا الأمن بين المجتمعات من ثنايا ما يعرف بعمليات التحضر العالمي بعامل السلوک الاتصالي يتحقق ظرف التعايش السلمي العالمي الذي يتمخض من رحمه الأمن العالمي . وفي مثل هذه الظروف تکون الفرصة سانحة أمام بروز دور المنظمات العابرة للقوميات والمنظمات الدولية والکيانات ذات الطابع العالمي المهيئة لنشوء هيئات حکم عالمية تتوافق مع طبيعة العالم المعاصر أو ما بعد العصر الصناعي “post-industrial age” ، والحق الذي لا يأتيه الريب من بين يديه ولا من خلفه أن مخاض عالم بهذه الهيئة الطوبوية التي يزعمها أنصار هذه المدرسة سينکأ من جديد خلافاً قديماً بين المدارس التنظرية المختلفة وسيسکب مزيداً من الزيت على صراعاتها الفکرية الموقدة، وحتى لو فرضنا جدلاً أن بلغ عالمنا المعاصر هذه المرحلة السلمية المنشودة والتي يسودها السلام والأمن العالميين والتي سينشط في رحابها دور الکيانات والمنظمات الدولية الحاکمة، فإنه من المتوقع أن مثل هذه الکيانات ستجلب على العالم نمطاً جديداً من الصراع المفضي إلى النيل من الأمن العالمي، إذ سيحدث حتماً صراع بين القوميين وغيرهم من الفئات التي ترسخ لفکرتي السيادة والدولة، حيث سنجد من يخرج من صفوف هؤلاء من يندد بالقيود التي تفرضها هذه المنظمات على حرکة التفاعلات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد وکذا التفاعلات بين المجتمعات

     إن الافتراضات التي بنيت عليها النظرية النقدية ونظرتها المثالية للأمن والأمننة ساقت بعضهم –أمثال Andrew Linklater)) ممن ساورهم الشک بشأن هذه الافتراضات إلى النبش في قدرة هذه الافتراضات على تحقيق الأمن، فلا اتفاقيات الحد من الضرر العالمية cosmopolitan harm convention” “ ولا المساعي الدبلوماسية ولا صحيح القانون الدولي ولا غيرها من القواعد الناظمة للأفعال الاتصالية بمقدورها أن تحول دون وقوع الضرر المفضي إلى عدم تحقيق الأمن ولا أن تتوقع بشأن حدوثه ، فالشعارات على شاکلة المساواة بين جميع الأفراد والتحرر من القيود التي تکبل نشاط الأفراد وغيرها والتي يلوح بها أنصار هذه النظرية کثيراً، قد تذهب أدراج الرياح إذا استندنا إلى الحقيقة الخالدة والناموس الحاکم للطبيعة الفوضوية للبيئة الدولية ألا وهو "الصراع من أجل القوة".

رابعًا- نظرية اتصالية مقترحة لتفسير ظاهرة الأمننة

    تقوم هذه النظرية على العديد من الافتراضات التي تقيم صلب النظرية الاتصالية في مجال الدراسات السياسية، والتي في صدارتها فسيولوجيا الأعصاب: وتعني أن الجهاز العصبي المرکزي (الحکومة أو متخذي القرار) يقوم بتلقي المنبهات والاستجابات(التهديدات الأمنية) من الحواس (بيئة النظام السياسي )، ثم يقوم الجهاز العصبي(أو الحکومة) بإفراغ التيار(الخطاب المؤمنن) مرة أخري في الجسد(المجتمع)، وهذا ما يوضحه الشکل التالي:

خ

    ومن الشکل أعلاه يتضح أن هذه النظرية تقوم على مفردات عدة، سوف نعرض لها، ثم نوضح آلية التفاعل بينها أو بعبارة أخرى ميکانيزمية عمل هذه النظرية، وذلک على النحو التالي:

أولاً –مفاهيم ومفردات النظرية:

1-الأنساق الاجتماعية(البيئة): وتتمثل في بيئتي متخذي القرار السياسي الداخلية والخارجية، وهي تتضمن:

أ-الأنساق الإيکولوجية والبيولوجية(الدولية والمحلية): وهي تشتمل على کافة التأثيرات البيئية التي ينبعث منها تهديدات أمنية سواء للنظم السياسية أو الأفراد داخل دولها.

ب-الأنساق السياسية(الدولية والمحلية): وتتمثل في کافة المتغيرات السياسية الداخلية أو الدولية التي تشکل تهديداً حالياً أو محتملاً.

جـ-الأنساق الاجتماعية: وهي تتألف من کافة المتغيرات والقوى المجتمعية المحلية أو الدولبة والتي بمقدورها أن تصدر تصرفات اجتماعية ذات صبغة أمنية.

د-الأنساق الاقتصادية: وتعبر عن کافة المعاملات والمحددات الاقتصادية التي من شأنها أن تهدد الأحوال المعيشية السائدة أو التوقع بتهديد أحوال مرضية حالية مستقبلاً.

2-المؤمنن: يعبر عن القيادات السياسية والجهاز العصبي المرکزي للمجتمع والذي يتقلى الأحداث والموضوعات ذات الصبغة الأمنية أيکان مجالها کمنبهات ثم يصيغ خطاباً أمنياً أو کما يترأى له من سياسات ليبثها في أعصاب المجتمع لتحويل الموضوع من خطر إلى تهديد أمني يستدعي التحرک المجتمعي والاصطفاف.

3-الموضوع الأمنني: وهو الموضوع الذي يشکل خطراً على أمن المجتمع أو النظام السياسي أو الفاعلين فيه، والذي يصل إلى متخذي القرار في شأن معلومات وثيقة الصلة بالموضوع الذي يراد اتخاذ سياسات أو خطابات مؤمننة بشأنه، وهو يمثل بالطبع مدخلات للنظام السياسي.

4-الرسالة: وهي قد تکون في شکل خطاب أمنني أو سياسات أمنية وضعت خصيصاً من قبل متخذي القرار لتهويل واقع معين لخدمة أغراض سياسية.

5-الوسيط: وهو عبارة عن القناة الناقلة للخطاب أو السياسات المؤمننة للجمهور.

6-الجمهورالمستهدف: ويتمثل في أولئک الأفراد أو المواطنين الذين يقطنون داخل دولة بعينها أو نطاق جغرافي معين أو البسيطة جمعاء.

7-التحرکات المؤمننة: محصلة وناتج تأثر الجمهور بالخطاب أو السياسات المؤمننة، والذي يظهر عياناً بياناً في سلوک وتصرفات الأفراد، أو في رسائل الدعم للقيادات السياسية بشأن اتخاذ الضوء الأخضر لمواجهة التهديد وشيک الحدوث المصور والمعد بحبکة من تلک القيادات.

8-التغذية العکسية: وتنتج عن التفاعل بين التحرکات المؤمننة وبيئة السياسات المؤمننة، ومنها يتضح لمتخذي القرار مدى جدوى السياسات المؤمننة.

ثانياً-ميکانزمية عمل النظرية

    تقوم آلية نظريتنا المقترحة على ظهور موضوع يحمل صبغة أمنية في البيئتين الاجتماعية والمادية المحلية أو الدولية على سبيل المثال: قد يکون موضوعاً إيکولوجيا داخلياً حال حدوث جفاف معين أو تبعات زلازل أو آثار مدمرة ناجمة عن فيضان ما أو حريق شب في غابة ما، وقد يکون إيکولوجياً خارجياً مثل وباء کوفيد-19 أو ظاهرة الاحتباس الحراري، کما قد يکون موضوعاً سياسي النزعة حال تصوير التهديد الذي من الممکن أن يحل بالدولة من جراء بزوغ قوة دولية جديدة قادرة على التغير، ومن المتوقع أن تسعى إلى التغيير في صورة توزيع القوة في النسق الدولي(على سبيل المثال حرصت القيادات الأمريکية کثيراً على تصدير للشعب الأمريکي بل والعالم أجمع فزاعة "الخطر الصيني" القادم)، وداخلياً محاولة القيادات السياسية في بعض الدول تصوير بعض الأحزاب أو القوى السياسية على أنها خطر على أمن المجتمع. کما قد يکون الموضوع موضوعاً اجتماعياً دولياً حال جماعة بوکو حرام وحرکة طالبان، وقد يکون اجتماعياً داخلياً حال فصيل اجتماعي معين کالخطر الشيعي في المملکة العربية السعودية. وقد يتعلق التهديد بالأمور الاقتصادية الخارجية کأن يتم تصوير منظمة مالية دولية ما أو تبني نظام اقتصادي معين أو تعاملات اقتصادية أو تجارية معينة حال استيراد سلعة معينة من الخارج کما لو أنها سبباً للإضرار بالاقتصاد القومي.

   ثم يقوم الشخص المؤمنن باستغلال الحدث وتهويل أخطاره وتصويره وتصديره للجمهور بصوره تحمل في طياتها مخاطر وتهديدات أکبر بکثير مما هي في الوقع بالقدر الذي يثير اهتمام الجمهور المستهدف أو ربما ترويعهم. وتصوير المؤمنن الخطر على هذه الصورة يستلزم منه أمران أحدهما أو کلاهما، وهما: صياغة خطاب أمني: وذلک من ثنايا صياغة عبارات متناسقة مترابطة هادفة بمقدورها أن تجعل من سحابة صيف عابرة للموضوع أمني ما سحب ثخينة کثيفة يخرج ودق التهديد من خلالها، والذي بمقدوره أن ينبت بذور الخوف أو الهلع بين جمهور المستهدفين. أو من خلال رسم سياسات حکومية هادفة ومهولة للمخاطر ومغرقة في التفاصيل الاحترازية التهويلية أو التدابير الاستثنائية، الأمر الذي يصور للجمهورالمستهدف بأن ثمة شعور يقع في وجدانهم لا يقل في ضراوته عن شعور فاجعة أو قارعة کادت أن تحل بديارهم، ومن أدل الأمثلة على ذلک السياسات التي صکتها بعض القيادات الفرنسية بشأن ظاهرة الإسلاموفوبيا وتخويف الفرنسيين ووضع قيود على المواطنين والهجرة إلى الأراضي الفرنسية الأمر الذي جعل من حادثة تطرف عادية -کأي حادثة تطرف قد تحدث في أية بقعة في العالم- ظاهرة مهددة للمجمتع الفرنسي وتهدد أمنه واستقراره باستمرار وتروع مواطنيه. وسواء الخطاب الأمنني أو السياسات المؤمننة أو ما يسمي برسالة الأمننة فإن المؤمنن يستخدم لنشرها في صفوف الجمهور المستهدف وسيط أو قنوات ناقلة: ومنها على سبيل المثال القنوات الإعلامية المسموعة والمکتوبة والمرئية أو الفرامانات أو القرارت الحکومية الإلزامية التي يتم نشرها في جرائد الحکومات الرسمية، ومن الجدير بالذکر أنه إذا کانت هذه القنوات فعالة بما يکفي فإنها قد تؤتي بنتائج مثمرة في هيئة تصرفات وتحرکات مؤمننة. وحينما تتفاعل تلک التحرکات مع واقع بيئتها فإنها قد تنتج آثاراً جديدة يتعين على المؤمنن أن يعيها حتى يتمکن من تقييم جدواها.

     ومن الممکن أن نستخدم هذه الآلية لتفسير سياسات الأمننة التي صنعها الرئيس ترامب بشأن تضخيم مخاطر الهجرة غير الشرعية للنازحين المکسيک: حيث أنه سعى إلى تصدير خطاب موجه للشعب الأمريکي مفاده: إن النزوح المکسيکي أسهم في زيادة التيار الشعبوي لا سيما الراديکالي اليمني المتشدد”radical right-wing populism” وثقافة رد الفعل العنيف cultural backlash” “ الذي لا يعيش أنصاره في سلام أو انسجام مع طبيعة المجتمع الأمريکي الذي صممت بنيته على تقبل الاختلاف والتنوع الديني والعرقي والجنسي ، لا سيما مع تيار الوايتلاشwhitelash” “ الذي يدافع عن سياسات ترامب باستماتة، فضلاً عن أن هذه التيارات النازحة المتدفقة کبدت الولايات المتحدة الکثير من النفاقات المالية نتيجة العناية التي تخصصها الولايات المتحدة لهذه التيارات على سبيل المثال تضاعف حجم الرعاية الصحية والترفيهية المقدم لهذه الفئة من 15%عام 1994 إلى 36%لعام 2017.

    کما أن الجمهوريين -الذين منهم ترامب -أکثر رفضاً للنزوح المکسيکي من الديمقراطيين، وفي استطلاع رأي حول القبول المجتمعي الأمريکي لظاهرة الهجرة- أجري عام 2015 بعد شهر واحد من تولي ترامب مقاليد الحکم -جاءت نتائجه کالآتي: أن 53% من المجتمع الأمريکي ينبذ الوجود غير الشرعي للمهاجرين على الأراضي الأمريکية على اعتبار أنهم يتسببون في زيادة مستويات الجرائم الفتاکة واعتبر أن تضمينهم ضمن من لهم حق الانتخاب هو إعطاء صوت لمن لا صوت له“giving voice to the voiceless” ، وفي أغسطس من العام ذاته وبعد قرابة 6أشهر من سياسات ترامب المنددة بالهجرة غير الشرعية دعمت نسبة کبيرة من الأمريکان(76%) السياسات الحکومية التي أتخذت لتقنين الهجرة غير الشرعية ووضع التدابير اللازمة للحد من الهجرة غير الشرعية . ولعل العلة في ذلک أن الرسالة المؤمننة(التي أکد ترامب من خلالها أن قانون الهجرة مکمم”American immigration laws dumb”، ولابد من دق ناقوس الخطر وتفعيل قانون الهجرة)، ولقد أحدثت هذه الرسالة التي صدرت من قبل القيادة السياسية والتي بثتها من خلال القنوات الإعلامية المختلفة ما يسمى بتأثير الولاءات التيارية السريعة “knee-jerk tribal loyalties” (وهي هنا تيار الوايتلاش والحزب الجمهوري)وهذا التيار يسعى إلى اقناع أفراد المجتمع من ثنايا التأثير العنقودي؛ الأمر الذي هيأ لقبول الرأي العام الأمريکي بسياسات الأمننة التي جاءت بها القيادة السياسية ، حيث إن الخطاب الأمنني الذي قدمه الرئيس الأمريکي ترامب کان يمتلک من الأدلة القانونية ما يکفي لإقناع عدالة المحکمة بأن قرار بناء جدار عازل بين أمريکا والمکسيک للحد من النزوح غير المشروع کان قراراً سياسياً نابعاً من إرادة الأمة ومعبراً عنها وليس أمام المحکمة من حجج لدحضه .

   وفي الآليات التنفيذية عکف ترامب على بناء الجدار الحاجز ومطالبة المکسيک بدفع فاتورة البناء، کما إنه وضع إطاراً قانونياً لمنح تأشيرات الدخول، وکذلک وضع أعداد محددة من المهاجرين المسوح لهم بالدخول، وفي خطابه وفي تعامله مع هذه القضية ينطلق من مبدأ المباراة الصفرية.

الخـاتـمـة:

     إن القطع بالتوصل إلى نظرية عامة مجردة في مجال العلاقات الدولية- لاسيما في الدراسات الأمنية- على شاکلة النظريات العلمية في مجال العلوم الطبيعية أمر قد يحدو بنا عن جادة الصواب، فلم تعرف الدراسات الاجتماعية قاطبة ولا العلاقات الدولية تحديداً نظرية عامة وشاملة قادرة في کل زمان ومکان على تفسير کافة الظواهر السياسية الدولية(لاسيما الموضوعات الأمنية). وهذا ما خلص إليه البحث؛ فکما أوضحنا في البحث کيف أن نظرية کوبنهاجن قامت على افتراضات تبدو منطقية، بيد إن هذه النظرية جوبهت بانتقادات عدة، في صدارتها: إنحيازها المبالغ فيه لنظرية العامة للکلام لأوستين. في حين وجهت أسهم النقد لمدرسة باريس نظراً ترکيزها بشکل کبير على الجهاز الحکومي والسياسات الحکومية وإغفالها بعض الجوانب الأخرى الهامة في تحليل سياسات الأمننة. في حين انتقدت مدرسة أبيريستويث في بنائها افتراضاتها على مفهوم التحررية المجردة دون مرعاة للدونة المفهوم وخصوصية المجتمعات.وجاءت النظرية المقترحة(النظرية الاتصالية) لتتلافى کثير من الانتقادات التي تعرضت لها هذه النظريات؛ حيث عملت على الترکيز على کافة جوانب السياسات المؤمننة من منظور اتصالي، ورُعى في ذلک طبيعة الظاهرة وخصوصيتها.

الهوامش والمـراجع: