تقاسم السلطة الشامل وأثره على الانتقال السياسي في السودان

نوع المستند : مقالات سیاسیة واقتصادیة

المؤلف

قسم السياسة والاقتصاد، کلية الدراسات الأفريقية العليا، جامعة القاهرة.

المستخلص

فرضت طريقة وتوقيت خروج عمر البشير من السلطة بعد رئاسته للسودان لثلاثة عقود اشتراک مجموعة من الفاعلين غير المتجانسين في إدارة البلاد في مرحلة انتقالية ممتدة. وتعد التجربة السودانية مثالاً لتقاسم السلطة الشامل الذي يستهدف دمج أکبر عدد من الفاعلين في بنية مؤسسات الحکم الانتقالي، حيث يقوم تقاسم السلطة الذي تشهده البلاد منذ عام 2019 على شراکة تجمع القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وقوى إعلان الحرية والتغيير وعدد کبير من الحرکات والفصائل المسلحة.
وقد تم تأسيس هذا النمط الموسع لتقاسم السلطة عبر مرحلتين، تمت الأولى منهما في أغسطس من عام 2019 بتوقيع الوثيقة الدستورية بين المجلس العسکري الانتقالية وقوى إعلان الحرية والتغيير، بينما اکتملت الثانية في أکتوبر من عام 2020 بتوقيع اتفاق جوبا للسلام بين حکومة السودان الانتقالية وعدد من الفصائل المسلحة. لکن الأزمة الممتدة التي قادت لقرارات الخامس والعشرين من أکتوبر 2021 هددت بقاء نموذج تقاسم السلطة الشامل دون أن تعني تقويضه. فمن ناحية تضمنت هذه القرارات حل مجلسي الوزراء والسيادة والدعوة لتشکيل حکومة من التکنوقراط، ومن ناحية أخرى أقرت هذه القرارات استمرار الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا کمرجعيات رئيسية.
ويقدم نموذج تقاسم السلطة الشامل فرصاً کبيرة لإنجاح الانتقال السياسي المعقد في السودان من خلال إنهائه عدد من الصراعات الممتدة خاصة في غرب البلاد وجنوبها، وإسهامه في بناء توافق عام بشأن إجراءات المرحلة الانتقالية، والحد من فرص وعودة نظام الإنقاذ. لکن في الوقت نفسه يحمل نموذج تقاسم السلطة الشامل في السودان تحديات عديدة للمسار الانتقالي أبرزها إطالة أمد المرحلة الانتقالية، وإکساب إجراءات الانتقال السياسي المزيد من التعقيد، وعدم شمول التوافقات بعض الحرکات والفصائل المسلحة الأکثر تأثيراً.

الكلمات الرئيسية

الموضوعات الرئيسية


 

مقدمة

لا تعد المرحلة الانتقالية التي بدأت في السودان بسقوط الرئيس عمر البشير في ابريل من عام 2019 هي الخبرة الأولى للبلاد في المرور بمراحل الانتقال السياسي. لکن ما يميز التجربة الانتقالية القائمة في السودان عما سبقها هو تبني نموذج تقاسم السلطة الشامل والذي يستهدف ضم أکبر عدد من اللاعبين في بنية مؤسسات الحکم الانتقالي. وعلى الرغم من أن تشکيل هذه المؤسسات لم يکتمل بعد، کما واجهته العديد من مظاهر التعثر، لا يزال مجال التقدم الأبرز في المرحلة الانتقالية هو الاتساع المطرد لقائمة المشارکين في حکم البلاد، ما زاد المرحلة الانتقالية طولاً، حيث يتوقع أن تمتد لخمس سنوات في سابقة أفريقية تفوق أطول المراحل الانتقالية التي عرفتها القارة والمتعلقة بالتجربة الإثيوبية بين عامي 1991 و1995.

وبالنظر لنموذج تقاسم السلطة في السودان يلاحظ أنه تم تأسيسه عبر السير في مسارين متوازيين، بدأ بالمسار المؤسسي عبر تأسيس شراکة بين الفاعلين العسکريين والمدنيين، قبل أن يتم إطلاق المسار الإثني/الإقليمي من خلال توقيع اتفاق سلام جوبا بين الحکومة السودانية وعدد کبير من الحرکات والفصائل المسلحة في مختلف الأقاليم السودانية. لکن هذا النموذج تعرض لاختبار صعب في أکتوبر 2021 حين أعلن القائد العام للقوات المسلحة حل مجلسي الوزراء والسيادة ضمن إجراءات أخرى جاءت على إثر أزمة متصاعدة متعددة الأبعاد، وضعت استمرار نموذج تقاسم السلطة في موضع شک حقيقي، لکنها لم تتراجع عنه بصورة کلية، في ظل استمرار العمل بالوثيقة الدستورية والسعي لتشکيل حکومة مدنية تختلف عن سابقتها في الاعتماد على التکنوقراط لا الحزبيين.

وتسعى الدراسة لمعالجة الإشکالية المتعلقة بتداعيات اللجوء لهذا المنطق الموسع في ضم العديد من الشرکاء المتنوعين وغير المتجانسين في مؤسسات الحکم الانتقالي على مستقبل المرحلة الانتقالية التي تشهد قدراً کبيراً من التعقيدات الداخلية والإقليمية، وذلک من خلال الإجابة على سؤال رئيسي مفاده ما هو أثر تبني نموذج تقاسم السلطة الشامل على عملية الانتقال السياسي في السودان منذ عام 2019؟

- ما هو نموذج تقاسم السلطة الشامل، وما الذي يميزه عن غيره من نماذج تقاسم السلطة؟

- کيف تکونت الشراکة الموسعة بين المؤسسات العسکرية والأحزاب والقوى المدنية والفصائل المسلحة في السودان؟

- کيف يمکن تقييم التجربة الانتقالية السودانية منذ 2019 وحتى الآن؟

- ما هي فرص استمرار نموذج تقاسم السلطة الشامل في السودان لحين تسليم السلطة لهيئة منتخبة؟

- ما هو الوزن النسبي لکل من الفرص والتحديات التي يطرحها نموذج تقاسم السلطة الشامل على الانتقال السياسي في السودان؟

على هذا الأساس تستهدف الدراسة عبر محاورها المختلفة تغطية عدد من القضايا الفرعية المهمة تتضمن تعريف نموذج تقاسم السلطة الشامل والتمييز بينه وبين النماذج المشابهة وتوضيح الآليات المختلفة لإتمام التوافق بشأنه. بجانب رسم خريطة الشرکاء المتعددين في تقاسم السلطة في السودان منذ عام 2019، قبل أن يتم تتبع عملية التوافق على تقاسم السلطة بشقيها المؤسسي والإثني، ثم معالجة مرحلة التعثر التي تلت قرارات حل حکومة حمدوک الثانية في أکتوبر 2021. ويستهدف آخر محاور الدراسة تقييم تداعيات تبني منطق تقاسم السلطة الشامل على مستقبل الانتقال السياسي في السودان.

أولاً: نموذج تقاسم السلطة الشامل

يقوم تقاسم السلطة الشامل Inclusive Power Sharing على مشارکة کافة الکيانات والتنظيمات التي تعبر عن جماعات المصالح الرئيسية التي يعد اشتراکها في ترتيبات تقاسم السلطة ضرورياً من أجل إکسابها الشرعية. وبينما تعد الحکومات الائتلافية التجسيد الأکثر شيوعاً لتقاسم السلطة الشامل في الأوضاع الاعتيادية، تشهد المراحل الانتقالية بدورها تقاسماً شاملاً للسلطة من خلال بناء التحالفات الموسعة Grand Coalition والتي عادة ما تشهد إقراراً لمنطق الإجماع في اتخاذ القرارات المصيرية تجنباً لإقصاء أي من الشرکاء. وقد استخدمت مصطلحات متعددة لوصف الحالة التي تعکس الحرص على شمول أکبر عدد من الأطراف في بنية الحکم خاصة في الأوقات الانتقالية والأوضاع الاستثنائية، فعلى سبيل المثال طرح أرند ليبهارت Arend Lijphart مصطلح ديموقراطية الإجماع Consensus Democracy کنموذج يسعى لتأمين أکبر تمثيل للأغلبية الداعمة للحکومة من دون استبعاد أي طرف مؤثر من المشارکة في الحکم. کما قدمت بيبا نوريس Pippa Norris إسهامها للتمييز بين نماذج تقاسم السلطة ونماذج ترکيز السلطة والتي يعتبر عدد المشارکين ومدى تنوعهم المعيار الفاصل بينهما.

وفي التجربة الأفريقية شاع استخدام مصطلح تقاسم السلطة الشامل مع تعيين الحکومة الصومالية الانتقالية في عام 2004 والتي وصفت دولياً بأنها خطوة لإعادة الاستقرار والحکم الشامل، قبل أن يصبح رائجاً في حالات متعددة کترتيبات ما بعد الإبادة الجماعية في رواندا، وکذلک ما شهده عام 2008 من إقرار تجربتين لتقاسم السلطة في کل من کينيا وزيمبابوي في أعقاب تنازع الأحزاب السياسية على نتيجة الانتخابات الأمر الذي فجر في الحالتين موجة من العنف.

ومن الناحية النظرية يحمل تقاسم السلطة الشامل مزايا متعددة أبرزها تقييد سلطة الکيانات والتنظيمات الأکثر قوة من احتکار ممارسة السلطة خاصة في الظروف الانتقالية غير المستقرة. کذلک يساهم تقاسم السلطة الشامل في تعزيز المساواة في الحقوق السياسية بين المکونات الاجتماعية المختلفة خاصة في الدول التي تشهد مستوى مرتفع من التنوع الإثني. ويعمل تقاسم السلطة الشامل على تقليل حدة المنافسة السياسية من خلال استبعاد المخرجات الأکثر تطرفاً القائمة على ترکيز السلطة واستبعاد أطراف بعينها من أي مشارکة فيها، الأمر الذي يحد من فرص الانتکاس والعودة لحالة الصراع الداخلي. لکن في المقابل يفرض تقاسم السلطة الشامل مشکلات متعددة على أرض الواقع أبرزها تعقيد العملية السياسية الأمر الذي قد يؤثر سلباً على کفاءة وسرعة عمليات صنع القرار السياسي. کذلک يفرض التقاسم الشامل للسلطة مشکلات تتصل بالفجوة التي تنشأ بين الإطار الرسمي المعبر عنه في التوافق بين الأطراف المشارکة، والإطار غير الرسمي المؤسس على علاقات القوة الحقيقية بين هؤلاء الأطراف والتي کثيراً ما تفرغ عملية تقاسم السلطة من مضمونها. هذا فضلاً عن کون تبني منطق تقاسم السلطة الشامل في الأوضاع الانتقالية خياراً مکلفاً للغاية من حيث الموارد الاقتصادية والوقت، ما قد يعرض المسار الانتقالي برمته لخطر الانتکاس.

ويمکن التمييز بين ثلاثة أنماط رئيسية للتوافقات المؤسسة لتقاسم السلطة القائمة على شمول أکبر عدد من المشارکين وذلک أخذاً بمعيار مضمون القواعد المتفق عليها لضبط العلاقة بين المشارکين. ويعتبر النوع الأول هو النمط الأکثر اعتياداً وهو التوافق الشامل Inclusive Agreement والذي يقسم المناصب السياسية على جميع المشارکين بصورة تضمن احتفاظ کل منهم بقدر من السلطة دون استبعاد أي طرف. أما النوع الثاني فهو التوافق المشتت Dispersive Agreement ويعتمد على تقسيم السلطة على عدد کبير من الأطراف على أساس تباين النطاقات الجغرافية لسلطة کل طرف في إطار عام يغلب عليه الطابع اللامرکزي. وأخيراً يظهر التوافق المقيِد Constraining Agreement والذي يحد من سلطة أي طرف مشارک في السلطة على انتهاک سلطة الأطراف الأخرى خاصة الأطراف محدودة التمثيل في السلطة الجديدة. وبينما يعد الغرض الرئيسي من التوافق الشامل هو منح کل مشارک في التوافق نصيباً من ممارسة السلطة السياسية عبر صيغة مقبولة من جانب کل القادة السياسيين الرئيسيين، يعد الغرض الرئيسي من التوافق المشتت هو تمييز نطاق السلطة لکل شريک في التوافق عن نطاقات الشرکاء الآخرين وذلک لمنع أي تضارب في الممارسة أو تنازع في الاختصاص، وعلى نحو يعزز من کفاءة عملية تقاسم السلطة عبر إشراک کافة الجماعات. ويهدف التوافق المقيد حماية الجماعات الأقل قوة والأفراد العاديين من أي انتهاک قد تقوم به السلطة المشکلة نتيجة التوافق.

وعلى الرغم من التطور الکبير في جانبي الدراسة الأکاديمية والممارسة السياسية لتقاسم السلطة الشامل خاصة في السياق الأفريقي الذي يوفر العدد الأکبر من الحالات عالمياً في العقود الثلاثة الماضية، تشير التجارب إلى وجود عدد من العقبات الرئيسية التي قد تواجه تقاسم السلطة الشامل والتي يمکن حصرها في :

- الاصطدام بعملية التحول الديموقراطي خاصة إذا ما امتد منطق تقاسم السلطة الشامل لصياغة الإجراءات الضابطة للعملية الانتخابية الأمر الذي من شأنه أن يتحکم في مخرجاتها بصورة مسبقة تضمن اتساع التمثيل والمشارکة لکنها تحدث قطيعة مع ما تفترضه الانتخابات من الاحتکام لخيار الأغلبية.

- الطبيعة غير المستدامة لتقاسم السلطة الشامل والذي تلجأ إليه الأطراف المختلفة في حالة الانهاک من الصراع السياسي الممتد، ليکون بمثابة "هدنة" يعمل خلالها کل طرف على مراکمة المزيد من أصول القوى السياسية والمادية لحين ظهور فوارق مؤثرة تسمح للطرف الأقوى بالتنصل من الاتفاق.

- تحول عملية تقاسم السلطة إلى ساحة جديدة للتنافس بين القادة السياسيين المشترکين في بناء التوافق بدلاً من أن تشکل إطاراً للتعاون. فعادة ما تنشأ نزاعات على تفسير اتفاق تقاسم السلطة، وعلى حدود اختصاص کل طرف من الأطراف المشارکة.

- وجود شعور دائم بالغبن لدى کل المشارکين، حيث ينزع کل منهم لتصور أنه الطرف الأکثر تضحية، والأقل نصيباً من السلطة. وتعد هذه الحالة نتاجاً للتنوع الکبير في طبيعة المشارکين في تقاسم السلطة الشامل، ولحقيقة أنهم لم يجمعهم أي إطار للعمل المشترک قبل التوافق على تقاسم السلطة.

- ما تنتجه عملية تقاسم السلطة من تشظي داخل المکونات المشارکة. فعادة ما تحظى عملية تقاسم السلطة بتأييد ذوي التوجهات الإصلاحية والمعتدلة داخل کل کيان مشارک، الأمر الذي قد يدفع أصحاب التوجهات المتطرفة والراديکالية للانشقاق أو التشکيک في نزاهة مؤيدي تقاسم السلطة. وتخلق مثل هذه الانشقاقات الداخلية مشکلة إضافية حال ما تم السير في مسار دمج هؤلاء المنشقين في تقاسم السلطة کأطراف مستقلة حفاظاً على طابع الشمول الذي يشکل رکناً رئيسياً لشرعية تقاسم السلطة في العديد من الحالات.

ثانياً: شرکاء الحکم الانتقالي في السودان

تتسم خريطة القوى السياسية بقدر کبير من التعقيد والتشابک، لکن يمکن رصد أربعة لاعبين رئيسيين مشترکين في إدارة المرحلة الانتقالية وهم المؤسسة العسکرية بفرعيها القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والحکومة المدنية بقيادة عبد الله حمدوک، بالإضافة للاعب الرابع الذي تمت إضافته لاحقاً والمتمثل في الفصائل المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام في أکتوبر من عام 2020.

ويظهر محددان رئيسيان يضبطان عملية التغير المستمر في الأوزان النسبية للاعبين المحليين في السودان، يتمثل أولهما في التشظي الذي تعرضت له المکونات الرئيسية، إذ لم يعد من الممکن الحديث عن المؤسسة العسکرية أو قوى الحرية والتغيير باعتبار أي منهما فاعل وحيد متماسک بعد ظهور العديد من تباينات المواقف داخل کل منهما. أما المحدد الثاني فهو حالة السيولة الغالبة على التفاعلات السياسية في السودان وما تتيحه من فرص لنشأة تحالفات غير تقليدية تجاوز خطوط الانقسام المعتادة في السياسة السودانية سواء في المرحلة الانتقالية أو ما بعدها. وفي ظل التغيرات المتسارعة التي تشهدها السياسة السودانية حتى اللحظة الراهنة، يمکن رصد أبرز ملامح خريطة اللاعبين في السودان في:

1. القوات المسلحة السودانية

يشهد تاريخ السودان نمطين مختلفين لتدخل المؤسسة العسکرية في الحياة السياسية، النمط الأول هو تدخل على خلفية أيديولوجية واضحة کانت يسارية في حالة جعفر نميري وإخوانية في حالة البشير، تحمل خطة عمل محددة يسعى النظام الجديد لتطبيقها بسرعة وإحکام من دون انتظار توافق عام بشأنها. وقد أثبت هذا النمط قدراً من الدراية السياسية مکن قائد التدخل في الحالتين من البقاء في الحکم لفترة طويلة. أما النمط الثاني فهو تدخل غير أيديولوجي، تفرضه الضرورة، ويستهدف إنهاء أوضاع سياسية مضطربة أکثر مما يستهدف بناء أوضاع جديدة وفق خطة واضحة، لذا فهو أقصر عمراً، ولا يحمل مشروعاً سياسياً واضح المعالم، وغالباً ما يسعى للتوافق مع القوى السياسية والشعبية الفاعلة متقبلاً تسليمها السلطة من حيث المبدأ، وهو النمط الذي تجلى في حالة سوار الذهب وبدرجة أقل في حالة إبراهيم عبود. وتقترب حالة تدخل المؤسسة العسکرية السودانية للإطاحة بالرئيس البشير من النمط الثاني، وهو ما أکده غياب المشروع السياسي في بعديه الاستراتيجي والتکتيکي، والانفتاح المبکر على التواصل مع الحرکة الاحتجاجية والقوى السياسية، وکذا إعلان الالتزام بتسليم السلطة للمدنيين عبر انتخابات تعقب المرحلة الانتقالية، والتي أبدى المجلس العسکري الکثير من التنازل بشأن إدارتها ليتحول إلى شريک لأطراف أخرى.

وعلى الرغم من قصر أمد تولي المجلس العسکري الانتقالي للسلطة منفرداً بين ابريل وأغسطس 2019، شهد تشکيل المجلس تغيرات متعاقبة جاء بعضها استجابة للمطالب الشعبية، وجاء الآخر عاکساً لتوازنات القوى داخل المؤسسة العسکرية ذاتها. ففي البداية، لم تستمر صيغة "اللجنة الأمنية" التي أعلن عن توليها مسؤولية الحکم برئاسة الفريق أول عوض بن عوف سوى يومين قبل أن يضطر للاستقالة ونقل سلطته للفريق أول عبد الفتاح البرهان بفعل الضغوط التي جاءت من الحرکة الاحتجاجية ومن داخل المؤسسة العسکرية ذاتها. واستتبع خروج عوض بن عوف خروج عدد من القيادات العسکرية الأخرى من المشهد تقدمهم قائد الأرکان کمال عبد المعروف، ليتشکل المجلس العسکري الانتقالي من عشرة أعضاء برئاسة عبد الفتاح البرهان الذي شغل منصب المفتش العام للقوات المسلحة.

ومع بدء المفاوضات المباشرة بين المجلس العسکري وقوى الحرية والتغيير، تصاعدت المطالب بإقالة عدد من أعضاء المجلس العسکري الانتقالي من المقربين من الرئيس السابق عمر البشير ورموز نظامه وهو ما أسفر بالفعل في الرابع والعشرين من ابريل عن استقالة کل من الفريق أول عمر زين العابدين، والفريق أول جلال الدين الشيخ الطيب، والفريق أول شرطة الطيب بابکر علي، کما تبع ذلک استقالة الفريق مصطفى محمد مصطفى في الثالث والعشرين من مايو لأسباب صحية. کما جاءت المحاولة الانقلابية في نهاية يوليو 2019 التي تورط فيها أحد أهم أعضاء المجلس العسکري الانتقالي وهو رئيس أرکان القوات المسلحة الفريق أول هاشم عبد المطلب بابکر لتفرض تغييراً جديداً في قمة هرم القيادة في المؤسسة العسکرية وفي عضوية المجلس العسکري الانتقالي بالتبعية، ولتصبح توجهات الأعضاء المتبقين أکثر تجانساً بعد خروج غالبية العناصر التي يمکن لها أن تتبنى تصورات تصطدم بالتيار السائد الذي يقوده رئيس المجلس ونائبه.

وعلى الرغم من المشکلات التي عانت منها المؤسسة العسکرية منذ سقوط البشير، ظهر متغير جديد بداية من ابريل من عام 2020 ليعزز من شعبية المؤسسة العسکرية بعد أن فتحت جبهة مواجهات مسلحة على الحدود الشرقية لطرد المستوطنين والميليشيات الإثيوبية من منطقة الفشقة وهي المواجهات التي استمرت بصورة متقطعة منذ ذلک التاريخ وتمکنت معها القوات المسلحة السودانية من استرداد أکثر من 90% من منطقة الفشقة بعد نحو ثلاثة عقود من الاستيلاء عليها من جانب الإثيوبيين. وقد استفادت القوات المسلحة السودانية من الوضع الداخلي المتردي الذي تعاني منه إثيوبيا بعد اندلاع الحرب في إقليم تيجراي. هذه التطورات على الجبهة الشرقية ساهمت في ترميم نسبي لشعبية المؤسسة العسکرية بعد أن نجحت في تحقيق إنجاز على الأرض عجز البشير عن تحقيقه طوال سنوات رئاسته للبلاد. وقد تمثل هذا التوظيف السياسي لملف الفشقة في الزيارات المتکررة لقادة القوات المسلحة بداية من الفريق أول عبد الفتاح البرهان لمنطقة المواجهات في ولاية القضارف بصورة متکررة.

2. قوات الدعم السريع

شهدت سنوات احتدام الصراع في دارفور توسع الحکومة السودانية في الاعتماد على مجموعات مسلحة قبلية تتبع الجماعات العربية في الإقليم. ومع تغير اتجاهات الصراع على الأرض بدا واضحاً أن هذه المجموعات باتت تشکل خطراً في ذاتها بعد أن تکررت اشتباکاتها البينية، وبعد أن أثبتت حاجتها لإطار تنظيمي أکثر إحکاماً من أجل استمرارها في القيام بمهام حماية المناطق الغربية من السودان على نحو ما کشف عنه الهجوم المباغت لقوات حرکة العدل والمساواة والتي وصلت إلى مشارف العاصمة الخرطوم عام 2008.

على هذا الأساس بدأت السلطات السودانية في تنظيم المجموعات المسلحة التابعة في دارفور في أواسط عام 2013 تحت مظلة حملت اسم قوات الدعم السريع والتي بلغ حجمها آنذاک نحو ستة آلاف عنصر. وبعد أن تم نشرهذه القوات لعدة أشهر في مناطق جنوب کردفان لمواجهة المعارضة المسلحة المتنامية هناک، أعيد نشر قوات الدعم السريع في دارفور مرة أخرى عام 2014. وخلال السنوات الأولى للتأسيس کانت قوات الدعم السريع تابعة لجهاز الاستخبارات والأمن الوطني وذلک من خلال إسناد قيادتها إلى اللواء عباس عبد العزيز المنتمي للجهاز، على أن يعاونه محمد حمدان دقلو (حميدتي) أحد القيادات العسکرية التقليدية للمجموعات العربية في دارفور والذي کان يتولى منصباً قيادياً في قوات حرس الحدود. وفي ابريل من عام 2016 تم إصدار مرسوم رئاسي وضع قوات الدعم السريع تحت المسؤولية المباشرة لرئاسة الجمهورية.

وفي ظل ما تعکسه هذه الترتيبات من تعددية في المؤسسات العسکرية في السودان، وفي ظل اتساع حجم ونشاط قوات الدعم السريع، دفعت القوات المسلحة السودانية في يناير من عام 2017 لإصدار البرلمان السوداني قانوناً ينظم عمل قوات الدعم السريع ويضعها تحت مسؤولية القيادة العامة للقوات المسلحة. فبحلول نهاية عام 2016 اتسع حجم قوات الدعم السريع ليبلغ 20 ألف عنصر، کما تم نشر هذه القوات في دوائر الصراع المختلفة دارفور والنيل الأزرق وجنوب کردفان، وذلک بالتوازي مع تسلم محمد حمدان دقلو قيادتها منفرداً. وتقدر بعد المصادر إلى أنه في الوقت الحالي يتجاوز عدد قوات الدعم السريع 50 ألف عنصر مقاتل.

ومنذ إسقاط البشير في ابريل من عام 2019 تتمتع قوات الدعم السريع بوضع قوي نسبياً خاصة مع انخراطها في جهود مکثفة لتحسين صورتها لدى الجماهير ولدى أطراف عديدة مؤثرة في المشهد السياسي، بعد أن کانت القوات في قلب الاتهامات بالضلوع في فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من يونيو 2019. وتسعى قوات الدعم السريع بتوظيف طبيعتها کمکون متصل بالمشهد القبلي السوداني من حيث النشأة في تعزيز حضورها السياسي. ففي مايو من عام 2020 قامت قوات الدعم السريع بتسيير قافلة للمساعدات الإنسانية للمناطق الخاضعة لسيطرة قوات الحرکة الشعبية لتحرير السودان بقيادة مالک عقار في ولاية النيل الأزرق ، کما قامت في الشهر ذاته بالدفع بقوات لتعزيز المنظومة الأمنية بالولاية بعد تفجر الصراع القبلي بين قبيلتي النوبة والبني عامر. هذا بجانب الاستفادة من العلاقات الخارجية القوية بسبب الانخراط الطويل في تأمين المناطق الحدودية والعمل في إطار الترتيبات الدولية للسيطرة على تدفقات الهجرة غير الشرعية من مناطق شرق ووسط أفريقيا.

وعلى جانب آخر تم اختيار حميدتي في ابريل 2020 ليرأس لجنة الطوارئ الاقتصادية العليا وهي اللجنة التي تضم في عضويتها رئيس الوزراء ووزراء المالية والبترول والکهرباء والتجارة والعدل، ومديري الجمارک والشرطة والضرائب، وغيرهم، والتي تعد أبرز مهامها رفع المعاناة المعيشية. ويفترض أن تلعب اللجنة دوراً مهماً حيث تضم عدداً من اللجان لمعالجة قضايا صادرات الذهب والمحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية، والسلع الاستراتيجية، واستقطاب الدعم الخارجي، وإعادة هيکلة المصارف المحلية، والولاية على المال العام، ومکافحة التهريب وتجارة العملة.

3. قوى إعلان الحرية والتغيير

في ديسمبر من عام 2018 وقع على إعلان الحرية والتغيير أربعة مکونات رئيسية أولها تجمع المهنيين السودانيين، ثم قوى نداء السودان، ثم تحالف قوى الإجماع الوطني، والتجمع الاتحادي المعارض. وقد شکل الإعلان مظلة جامعة لکل معارضي البشير على نحو جمع الأحزاب التقليدية مع اليسارية وجمع التنظيمات المدنية مع الفصائل المسلحة.

 ويمثل کل مکون من المکونات الأربعة لقوى إعلان الحرية والتغيير ائتلافاً بين مجموعة من المکونات الأصغر الأکثر تنوعاً. حيث يعد تجمع المهنيين السودانيين مظلة واسعة تضم عدداً کبيراً من النقابات المستقلة غير الرسمية التي تمثل الإعلاميين والأطباء والبيطريين والصيادلة والمعلمين والمحامين وهو التجمع الذي لعب دوراً بارزاً في تحريک الشارع السوداني على خلفية الأزمة الاقتصادية في نهاية عام 2018. أما قوى الإجماع الوطني فيعد تحالفاً للمعارضة السودانية تأسس عام 2009 من سبعة عشر مکوناً سياسياً أبرزهم حزب الأمة والحرکة الشعبية لتحرير السودان-الشمال والمؤتمر الشعبي السوداني والحزب الشيوعي السوداني وعدد من الأحزاب الصغيرة التي يغلب عليها التوجه اليساري.

وفي عام 2014 تأسس تحالف نداء السودان من عدد کبير من الأحزاب المتفقة على أهمية التغيير والتحرک نحو حکومة انتقالية، وقد تقاطعت الکثير من الأحزاب والحرکات السياسية في عضويتها لکل من قوى الإجماع الوطني ونداء السودان. أما المکون الرابع فيضم عدداً من الأحزاب التي تنتمي للتيار الاتحادي العريض وهي الحزب الوطني الاتحادي الموحد، والاتحادي الديموقراطي العهد الثاني والاتحاديين الأحرار والتيار الحر. وقد لعبت قوى إعلان الحرية والتغيير الدور الأبرز في تحريک المشهد الاحتجاجي في السودان وصولاً لدخولها في المفاوضات مع المجلس العسکري الانتقالي والتي أدت في النهاية إلى توقيع اتفاق تقاسم السلطة وتشکيل حکومة انتقالية مدنية برئاسة عبد الله حمدوک.

وبقدر ما کان التنوع في ترکيب قوى الحرية والتغيير عاملاً حاسماً في تعزيز قدرتها على تمثيل مطالب وطنية عريضة تحظى بأکبر قدر من الإجماع، إلا أن هذا التنوع کان سبباً في إضعاف البنية التنظيمية لهذا التحالف الموسع، وتعريضه للخلافات الداخلية. وقد بلغت هذه الخلافات ذروتها في وقت اقتراب حسم المفاوضات مع المجلس العسکري، حين رفضت الحرکات المسلحة التوقيع على الاتفاق مطالبة بمسار مستقل للمفاوضات بينها وبين الحکومة الانتقالية بعد تشکيلها، فضلاً عن موقف الحزب الشيوعي المندد بأي دور للمؤسسة العسکرية في إدارة المرحلة الانتقالية، الأمر الذي وضعه في مواجهة مباشرة مع عدد من الأحزاب الأخرى من قوى الحرية والتغيير وفي مقدمتها حزب الأمة. ومن بين المؤشرات الخطيرة انتقال موجة الخلاف والانشقاق إلى داخل مکونات قوى الحرية والتغيير کل على حدة، في ظل استمرار الخلافات داخل الأحزاب والحرکات السياسية السودانية بشأن إدارة المرحلة الانتقالية والاستعداد للمرحلة التالية، وفي ظل تعثر تعاقب الأجيال على قيادة الأحزاب السياسية السودانية على اختلاف توجهاتها.

وقد کانت الانشقاقات في صفوف قوى الحرية والتغيير أحد أسباب التعثر الذي واجهه تقاسم السلطة الشامل في السودان. فقبل إصدار الفريق أول عبد الفتاح البرهان قرارات أکتوبر 2021، وقع انشقاق جديد في صفوف قوى الحرية والتغيير قاده حاکم دارفور مني أرکو مناوي ووزير المالية جبريل إبراهيم وکلاهما من قيادات الفصائل المسلحة بإقليم دارفور المنتميان لجماعة الزغاوة. وقد أسفر الانشقاق الجديد عن تشکيل ما يعرف بفصيل ميثاق التوافق الوطني والذي شکل نواة لکل معارضي عبد الله حمدوک وحکومته الثانية التي عکست منذ تشکيلها هيمنة مجموعة الأحزاب المسيطرة على القرار في المجلس المرکزي لقوى الحرية والتغيير الأمر الذي کان سبباً في دعوات ملحة للإصلاح الداخلي بقوى الحرية والتغيير بلغت ذروتها في مايو الماضي

4. الحرکات والفصائل المسلحة

من بين ارتدادات الصراع طويل الأمد الذي خاضته الدولة السودانية في الجنوب، کان انتشار بؤر التوترات والصراع في مناطق متعددة من البلاد، أبرزها إقليم دارفور غرب البلاد، ومناطق النيل الأزرق وجنوب کردفان. وعلى الرغم من انتهاج الرئيس البشير سياسات متعددة سعت لتصفية هذه البؤر بالمواجهة العسکرية تارة، وبالمفاوضات السياسية تارة أخرى، انتهى حکم البشير من دون إحراز أي تقدم فيما يتعلق بدوائر الصراع الداخلي الذي تواجه فيه القوات المسلحة السودانية مجموعة کبيرة من الحرکات والفصائل المسلحة، والتي باتت من أکثر الأطراف تشدداً في معارضة البشير في سنواته الأخيرة.

وقد انضمت العديد من الحرکات السودانية المسلحة لقوى إعلان الحرية والتغيير عبر عضوية بعض هذه الحرکات في ائتلاف نداء السودان وکذلک تحالف قوى الاجماع الوطني. لکن سرعان ما آثرت الفصائل المسلحة في دارفور وجنوب کردفان والنيل الأزرق أن تفصل نفسها عن مسار التفاوض بين القوات المسلحة وقوى الحرية والتغيير على اعتبار أن ما تتبناه الفصائل والحرکات المسلحة من مطالب يتجاوز تقاسم مناصب مؤسسات الحکم الانتقالي ليشمل أبعاداً إثنية أکثر عمقاً.

على هذا الأساس شارکت العديد من الفصائل المسلحة في مفاوضات مباشرة متعددة المسارات مع الحکومة الانتقالية في السودان وهي المفاوضات التي أفرزت في النهاية اتفاق سلام جوبا الموقع في أکتوبر من عام 2020. وعلى الرغم من تقسيم المفاوضات إلى مسارات ذات طبيعة جغرافية، إلا أن الترتيبات الأکثر أهمية تم إقرارها في مسار التفاوض مع الحرکات المسلحة في إقليم دافور والذي ضم کل من حرکة العدل والمساواة وحرکة تحرير السودان (فصيل مني مناوي)، وحرکة تحرير السودان (فصيل المجلس الانتقالي) وحرکة التحالف السوداني، وتجمع قوى تحرير السودان. کذلک تم إحراز تقدم نسبي في التفاوض مع الحرکات المسلحة في منطقتي النيل الأزرق وجنوب کردفان والذي شارکت فيه الحرکة الشعبية لتحرير السودان- الشمال (فصيل مالک عقار). لکن تظل هناک مشکلة رئيسية تواجه هذه الاتفاقات والتي تتمثل في غياب اثنتين من أهم الحرکات المسلحة وهما حرکة تحرير السودان (فصيل عبد الواحد محمد نور) والتي تعد من أهم الحرکات الدارفورية، بجانب الحرکة الشعبية لتحرير السودان-الشمال (فصيل عبد العزيز الحلو) والتي لا تزال تسيطر على مناطق مهمة في جنوب کردفان والنيل الأزرق.

ومع حرص الحکومة السودانية على إتمام ملف السلام في أقرب فرصة، باتت الحرکات المسلحة التي قبلت التفاوض أکثر تشدداً في مطالبها السياسية والأمنية على النحو الذي يضمن لها أن تصبح شريکاً رئيسياً في الحکم وهو ما کان سبباً في تعديل العديد من البنود الرئيسية في الوثيقة الدستورية لتصبح أکثر قدرة على استيعاب هذه الفصائل في بنية مؤسسات الحکم الانتقالي.

ثالثاً: تطور نموذج تقاسم السلطة الشامل في السودان

تشير تجربة السودان منذ سقوط البشير في ابريل من عام 2019 إلى أن نموذج تقاسم السلطة قد تم بنائه على مرحلتين منفصلتين. فتقاسم السلطة المؤسسي قد تم بين المجلس العسکري الانتقالي ممثلاً للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع وبين قوى إعلان الحرية والتغيير ممثلة للأحزاب والتنظيمات المدنية وذلک بتوقيع الاتفاق المتضمن الوثيقة الدستورية التأسيسية في السابع عشر من أغسطس 2019. أما تقاسم السلطة الإثني بين قوى المرکز بشقيها المدني والعسکري ممثلة في هيئات الحکم الانتقالي وبين قوى الهامش ممثلة في الحرکات والفصائل المسلحة فقد تم إقراره في الثاني من أکتوبر 2020 في مدينة جوبا عاصمة جنوب السودان.

وقد أعقب مرحلتي التأسيس تعرض نموذج تقاسم السلطة لتعثر واضح في الخامس والعشرين من أکتوبر من عام 2021 حين أعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان قرارات حل مجلسي الوزراء والسيادة، مع الإبقاء على مرجعيتي الوثيقة الدستورية واتفاق سلام جوبا والتعهد بتشکيل حکومة مدنية غير حزبية، الأمر الذي يعني استمرار النموذج على المستوى الدستوري مع قدر من التراجع على مستوى التنفيذ.

بهذا تقدم الحالة السودانية واحداً من أکثر نماذج تقاسم السلطة تعقيداً وترکيباً على مستوى التجربة الأفريقية ککل، الأمر الذي قد يجعل منه حال نجاحه قابلاً للتصدير لحالات أخرى کآلية فعالة في معالجة الانقسامات العميقة والجذرية التي تشهدها الکثير من الدول الأفريقية والتي قد تتسبب حال تجاهلها في تعثر المسار الانتقالي.

1. التقاسم المؤسسي عبر اتفاق أغسطس 2019

بمجرد سقوط البشير والإعلان عن تولي المجلس العسکري الانتقالي السلطة في السودان بدأت عملية تفاوض شاقة سبقت إطلاق المرحلة الانتقالية في السودان، حيث تفاوض المجلس العسکري الانتقالي مع أطراف مدنية عديدة، کان أهمها الوفد الموحد الممثل لقوى الحرية والتغيير، لکنه کذلک تفاوض مع بعض أعضاء هذه القوى بشکل منفرد سواء من ممثلي الأحزاب السياسية أو من ممثلي الحرکات المسلحة التي فضل بعضها التعامل بشکل مستقل عبر قنوات تفاوض جانبية بعيدة عن المفاوضات الرئيسية المتعثرة.

وقد دخلت لجان الوساطة بدورها على خط التفاوض خاصة وقت تعقد المفاوضات بشأن الوثيقة الدستورية الانتقالية قبل أن تلاقى مقترحاتها بالرفض من المجلس العسکري ومن قوى الحرية والتغيير. کما انفتح المجلس العسکري على قبول مقترحات کافة الأحزاب السياسية من خارج قوى الحرية والتغيير والتقى ببعضها في العديد من الاجتماعات ذات الطابع التشاوري، بل إن المجلس کان حريصاً على تمثيل هذه الأحزاب في مؤسسات الحکم الانتقالي على غير رغبة من قوى الحرية والتغيير. بجانب أطراف أخرى غير سياسية کالتيارات الدينية التي تتبنى رؤى مناقضة تماماً لما تطرحه قوى الحرية والتغيير.

لکن التوترات التي تسبب فيها فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة من جانب، والضغوط الدولية المتنامية خاصة بعد تعيين السفير دونالد بوث مبعوثاً أمريکياً للسودان من جانب آخر، عجلت بتوصل المجلس العسکري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير لاتفاق لتقاسم السلطة جسدته الوثيقة الدستورية والتي حملت عددًا من الملامح البارزة التي تکشف عن الطبيعة المعقدة للعملية التفاوضية، وما ارتبط بها من توازنات بين القوى المختلفة. فقد قام الاتفاق على إقرار فترة انتقالية مطولة تمتد إلى تسعة وثلاثين شهرًا، يقوم الحکم فيها من خلال ثلاث مؤسسات انتقالية، هي: المجلس السيادي، ومجلس الوزراء، والمجلس التشريعي، والتي يشهد کل منها تقاسمًا لشغل المناصب أو اختيار شاغليها بين المجلس العسکري وقوى الحرية والتغيير. وتنحاز الوثيقة الدستورية في توزيعها للاختصاصات بين هذه المؤسسات إلى مجلس الوزراء الانتقالي في ترتيب يشابه ذلک المعمول به في النظم البرلمانية.

ويُعد المجلس السيادي رأس الدولة ورمز وحدتها وسيادتها، ويتشکل من أحد عشر عضوًا، يمثل خمسة أعضاء منهم المجلس العسکري الانتقالي، ويمثل الخمسة الآخرون قوى الحرية والتغيير، بجانب عضو مدني مرجح يتم اختياره بالتوافق بين الجانبين. أما مجلس الوزراء فيتکون من رئيس للوزراء تختاره قوى الحرية والتغيير، والذي يتولى تشکيل حکومة لا يتجاوز عدد وزرائها العشرين وزيرًا من خلال اختيار اسم من الأسماء الثلاثة التي تقترحها قوى الحرية والتغيير في کل منصب وزاري، باستثناء وزيري الدفاع والداخلية اللذين سيختارهما الأعضاء العسکريون بالمجلس السيادي.

وفيما يتعلق بالمجلس التشريعي، فقد تم التوافق على أن يضم عددًا من الأعضاء لا يتجاوز ثلاثمائة عضوًا ممثلين لکافة المکونات السياسية والمجتمعية في السودان، على أن تحدد قوى الحرية والتغيير 67% من أسماء هؤلاء الأعضاء من داخل الأحزاب والحرکات الموقِّعة على إعلان الحرية والتغيير، مقابل 33% من المقاعد للقوى السياسية من خارج الحرية والتغيير يتولى الأعضاء العسکريون في المجلس السيادي الحق في اختيارهم.

وقد حددت الوثيقة الدستورية عددًا من المهام لمؤسسات الحکم الانتقالي بلغ ست عشرة مهمة تنقسم بين مهام تحقيق السلام التي منحت أولوية، والتي تشمل: إنهاء الحرب، وتحقيق السلام العادل والشامل، وتتضمن معالجة الأسباب الجذرية لمشکلات الحرب، مع إقرار اتخاذ تدابير “تفضيلية مؤقتة” للمناطق المتأثرة بالحرب والأقل نموًّا والمجموعات الأکثر تضررًا. بجانب عدد من المهام التشريعية والقضائية التي تضمنت سن التشريعات المنظِّمة لأداء مهام الفترة الانتقالية، مع إنشاء آليات للإعداد لوضع دستور دائم، مع عقد المؤتمر القومي الدستوري قبل نهاية الفترة الانتقالية، وإلغاء القوانين التمييزية والمقيدة للحريات، ومحاسبة منتسبي نظام البشير على جرائمهم بحق الشعب السوداني، وکذلک الإصلاح القانوني وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية، وتشکيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة بدعم إفريقي عند الاقتضاء وفق تقدير اللجنة الوطنية لإجراء تحقيق في الانتهاکات التي وقعت في الثالث من يونيو وغيرها من الوقائع المشابهة التالية على الإطاحة بالبشير. وعلى الجانب الاقتصادي، حددت الوثيقة عددًا من المهام هي: معالجة الأزمة الاقتصادية، وتحقيق التنمية المستدامة عبر برنامج اقتصادي واجتماعي ومالي عاجل، بجانب وضع برامج لإصلاح أجهزة الدولة، مع إسناد مهمة إصلاح الأجهزة العسکرية للمؤسسات العسکرية. وکذلک القيام بدور فاعل في الرعاية الاجتماعية وتحقيق التنمية الاجتماعية. فضلًا عن المهام المتعلقة بعلاقات السودان الخارجية والمتمثلة في: وضع سياسة خارجية متوازنة تحقق مصالح السودان وتبني العلاقات الخارجية على أسس الاستقلالية والمصالح المشترکة.

2. التقاسم الإثني عبر اتفاق جوبا للسلام في أکتوبر 2020

بعکس ما روجت له الکثير من الخطابات السياسية والأدبيات الأکاديمية، لم يساهم انفصال جنوب السودان في عام 2011 في إنهاء ظاهرة التنوع الإثني الکبير في السودان، فحتى بعد الانفصال ظل الترکيب السکاني في جمهورية السودان على قدر کبير من التنوع. کما أن نجاح الجنوبيين في الحصول على دولتهم المستقلة شجع أطرافاً أخرى في شرق وغرب ووسط السودان على التصعيد من المواجهة العسکرية لنظام البشير وهو الاتجاه الذي کان قد بدأ بالفعل قبل انفصال الجنوب.

وفي الکثير من الأحيان تم صياغة التمرد المسلح في أطراف السودان باعتباره صراعاً إثنياً بالأساس ارتکازاً على حقيقة أن المکون "العربي" الذي يحتکر السلطة منذ استقلال السودان عام 1956 والمنتشر في المناطق الوسطى من وادي النيل لا يشکل سوى 70% من سکان السودان، في الوقت الذي تمثل فيه جماعات أفريقية متعددة النسبة الباقية. ومما زاد من حدة مشکلة التعدد الإثني في السودان تطابق التقسيم الإداري مع الانقسامات الإثنية الرئيسية بحيث شکل جماعات غالبة عددياً في کل إقليم من الأقاليم الطرفية.

وفور الانتهاء من توقيع اتفاق تقاسم السلطة بين المجلس العسکري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير، شرعت أجهزة الحکم الانتقالي في سلسلة من المفاوضات المطولة مع الحرکات والفصائل المسلحة، وهي المفاوضات التي شارک فيها کل من رئيس مجلس السيادة الانتقالي ونائبه ورئيس الوزراء، والتي عقدت جولاتها في المدن السودانية وعلى رأسها العاصمة الخرطوم، وعدد من العواصم الإقليمية کجوبا والقاهرة وأديس أبابا ونجامينا. وفي الثاني من أکتوبر من عام 2020 تم التوقيع النهائي على اتفاق السلام في السودان في مدينة جوبا عاصمة جنوب السودان. وقد جاء هذا الاتفاق الموقع بين الحکومة الانتقالية السودانية وعدد من الفصائل المسلحة المنضوية تحت راية الجبهة الثورية ليضع نهاية لصراعات السودان التي امتدت لنحو سبعة عشر عاماً.

ووفق ما اتفق عليه سرعان ما شهدت السودان تغييرات سياسية متعاقبة تمثل أبرزها في حل مجلس الوزراء، وتشکيل حکومة جديدة وفق نظام المحاصصة الذي أقر في اتفاق جوبا بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية والذي سيمنح الفصائل المسلحة خمسة حقائب وزارية من أصل خمسة وعشرين حقيبة تضمنتها الوزارة الجديدة. وقد أسفر هذا التوزيع الجديد للمناصب الوزارية عن حصول الفصائل المسلحة على مناصب بالغة الأهمية کان أبرز مظاهرها تولي جبريل إبراهيم قائد حرکة العدل والمساواة منصب وزير المالية.

کذلک تم استکمال تشکيل مجلس السيادة الانتقالي بإضافة ثلاثة أعضاء جدد ممثلين للحرکات والفصائل المسلحة سيتم إضافتهم لأعضاء المجلس الذي تم تشکيله في أغسطس 2019 والذي يضم خمسة أعضاء عسکريين إلى جانب ستة أعضاء مدنيين. ففي مارس من عام 2021 أدى کل من مالک عقار والهادي إدريس والطاهر أبو بکر حجر اليمين الدستورية لتولي ثلاث مقاعد تم إضافتها لمجلس السيادة الانتقالي. کما ينتظر أن يتم اتخاذ إجراءات أخرى أکثر اتساعاً في مقدمتها الشروع في تشکيل المجلس التشريعي الانتقالي بمنح الفصائل المسلحة الحق في تسمية خمسة وسبعين عضواً من أصل ثلاثمائة.

کل هذه الإجراءات تضاف إلى ما تضمنه الاتفاق من إلغاء التقسيم الإداري القائم وفق نظام الولايات وإقرار تقسيم إداري جديد يقسم البلاد إلى ثمانية أقاليم، بما يعکس استجابة کبيرة لمطالب الحرکات المسلحة. ففي مارس 2021 أصدر رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول رکن عبد الفتاح البرهان، مرسوما دستوريا بإنشاء نظام الحکم الإقليمي، وذلک بموجب نصوص اتفاق جوبا للسلام الذي نص على عودة السودان لنظام الأقاليم بدلاً من الولايات على أن يبلغ عددها ثمانية أقاليم.

ويعد إصدار مرسوم الحکم الإقليمي بداية لتنفيذ کافة مقررات اتفاق جوبا والذي يتضمن إجراءات مکملة مثل تشکيل القوة المشترکة لحفظ الأمن في دارفور والتي أقر أن يتم تشکيلها مناصفة بين الأجهزة الرسمية بما تضمه من قوات مسلحة ودعم سريع وشرطة وبين الفصائل المسلحة بواقع عشرة آلاف عنصر لکل طرف، مع السير بالتوازي في مسار تقاسم الثروة وخاصة فيما يتعلق بعوائد التعدين، فضلاً عن البدء في تشغيل صندوق إعادة إعمار المناطق المتضررة من الصراعات. حيث أقر الاتفاق إطلاق صندوق سيادي جديد في السودان برصيد سبعة مليارات ونصف المليار دولار سيخصص إنفاقه في السنوات العشر المقبلة لمناطق الصراع.

3. التراجع في أعقاب قرارات أکتوبر 2021

أعقب تشکيل حکومة عبد الله حمدوک الثانية في فبراير 2021 تصاعد الأزمة تدريجياً بين شرکاء الحکم الانتقالي في السودان، وتعثر جهود المبعوث الأمريکي للقرن الأفريقي التي بذلها ميدانياً من الخرطوم للتوفيق بين أطراف الأزمة، دخلت المرحلة الانتقالية في السودان مرحلة جديدة في الخامس والعشرين من أکتوبر 2021 منعطفاً جديداً حين قامت القوات المسلحة فجراً بإلقاء القبض على رئيس الوزراء عبد الله حمدوک وعدد من وزراء حکومته، وبعد ساعات من الترقب أذيعت کلمة مصورة للفريق الأول عبد الفتاح البرهان تضمنت إعلانه عن سلسلة من القرارات أبرزها حل مجلسي السيادة والوزراء وإعلان حالة الطوارئ، وإقالة حکام الولايات، والإعلان عن تشکيل حکومة جديدة تقوم على الکفاءات، وإجراء الانتخابات العامة في يوليو 2023، والإعلان عن تشکيل مفوضية لصياغة الدستور ومفوضية للانتخابات ومحکمة دستورية قبل نهاية نوفمبر 2021، بجانب تجميد عمل لجنة إزالة التمکين ومراجعة أعمالها.

وقد جاء تشديد البرهان على استمرار العمل بالوثيقة الدستورية مع تعطيل بعض موادها المتعلقة بمجلس الوزراء الانتقالي وتشکيله من جانب قوى الحرية والتغيير، وکذا الالتزام باتفاق سلام جوبا ليصيغ الإجراءات الأخيرة في إطار کونها إصلاحات ضرورية للمسار الانتقالي -من دون إنهائه- اتساقاً مع ما أعلن عنه سابقاً من تعديلات هيکلية على هامش الأزمة.

وتشهد الأوضاع في السودان تصاعداً مطرداً منذ سبتمبر 2021 حيث لجأت الأطراف السودانية المختلفة لمنطق الحشد والحشد المضاد وهو ما تجاوز التهديدات المتصاعدة من جانب قوى الحرية والتغيير وقائد قوات الدعم السريع طوال سبتمبر الماضي ليجد مجالاً للتنفيذ على أرض الواقع من خلال بدء قوى ميثاق التوافق الوطني حشد أنصارها أمام القصر الرئاسي للمطالبة باستقالة حکومة عبد الله حمدوک بداية من السادس عشر من أکتوبر، مقابل احتشاد أنصار الحرية والتغيير في مظاهرات متعددة في الحادي عشر من الشهر ذاته الأمر الذي أدى لوقوع مناوشات بين الجانبين کشفت عن مستوى جديد من التأزم.

ومن بين مسببات التعثر کذلک، استمرار مشکلة غلق مجلس نظارات البجا لإقليم شرق السودان بموانئه البحرية والجوية وطرقه القومية والدولية الأمر الذي أسفر عن تآکل حاد في الاحتياطي السوداني من السلع الغذائية الأساسية والوقود والأدوية، واللجوء لبدائل غير عملية کالاعتماد على ميناءي السخنة في مصر وبنغازي في ليبيا والشحن البري من تشاد من أجل تدبير احتياجات البلاد من السلع الأساسية. هذا إلى جانب تنامي المواقف المناوئة للجنة إزالة التمکين ومحاربة الفساد بعد اتهامها بتسييس عملها وتحولها لأداة للضغط على مکونات سياسية بعينها وارتکاب العديد من المخالفات الإجرائية وتجاوز نطاق اختصاصها المقرر في الوثيقة الدستورية. ففي الخامس من أکتوبر صدر حکم قضائي ببطلان قرار اللجنة بفصل سبعة عشر قاضياً من بينهم سبعة من قضاة المحکمة العليا، بعدما تسبب قرار اللجنة الصادر في نهاية نوفمبر باتخاذ نادي القضاة قراراً بتعليق العمل بجميع المحاکم لمدة ثلاثة أيام، وفي الثاني عشر من أکتوبر صدر قرار مماثل ببطلان قرار اللجنة بفصل عدد من الدبلوماسيين بوزارة الخارجية.

رابعاً: تقييم نموذج تقاسم السلطة الشامل في السودان

يقوم التطور السياسي في السودان منذ الاستقلال في عام 1956 على سلسلة متواصلة من التعاقب بين الحکم المدني والعسکري تعکس الکثير من مظاهر التناقض بين النمطين. ومنذ سقوط نظام البشير في ابريل من عام 2019 شهدت التجربة السودانية تحولاً نوعياً تمثل في تأسيس نمط هجين من الحکم الانتقالي المرکب يقوم على الشراکة بين المدنيين والعسکريين، کما يقوم على تمثيل مختلف المکونات الإثنية في السودان من خلال إدماج الفصائل المسلحة في مؤسسات الحکم الانتقالي. ويتسم تقاسم السلطة في السودان بثلاث سمات رئيسية تتمثل في:

1. الظرفية

لم يأت اشتراک المؤسسة العسکرية وقوى الحرية والتغيير في تشکيل مؤسسات الحکم الانتقالي نتيجة ترتيبات مسبقة أو تفاهمات سلسة في الأيام الأولى لسقوط البشير، وإنما ساهمت جملة من العوامل الداخلية والخارجية في دفع الجانبين لقبول منطق تقاسم السلطة على الرغم من وجود تحفظات متعددة لدى کل طرف. هذا الواقع الظرفي لنشأة الشراکة بين العسکريين والمدنيين في الحکم الانتقالي في السودان أسس لسيادة منطق براجماتي واقعي لدى الجانبين ساعد على تجاوز العديد من المحطات الصعبة کتشکيل حکومتي عبد الله حدوک الأولى والثانية، وإطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي، فضلاً عن اشتراک الجانبين في مسارات السلام المتوازية مع الفصائل المسلحة والتي تبنت فيها الأطراف المختلفة مواقف غلب عليها المرونة والعملية. لکن في المقابل، يحول هذا الطابع الظرفي للشراکة دون تقدمها في مسار التطور والمأسسة والاستدامة.

2. السيولة البنيوية

يحمل الحديث في الحالة السودانية عن مکونين أحدهما مدني والآخر عسکري طابعاً اختزالياً يتجاوز الواقع القائم. حيث تشهد بنية المؤسسة العسکرية السودانية تعددية واضحة في ظل السياسة التي تبناها الرئيس السابق عمر البشير والتي قامت على دمج العديد من الکيانات شبه العسکرية في بنية المؤسسة العسکرية من دون تحديد دقيق لتسلسل القيادة أو لعلاقة هذه الکيانات بالقوات المسلحة السودانية. وقد أفرز هذا الوضع الحالة الخاصة لقوات الدعم السريع التي تتمتع بحجم کبير ومستوى متقدم من التأهيل فضلاً عن انتشارها في مختلف مناطق السودان، الأمر الذي انعکس سياسياً في صورة "تقاسم داخلي" لحصة المؤسسة العسکرية من المناصب في هيئات الحکم الانتقالي بين القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي تقلد منصب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وبين قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي تم اختياره نائباً لرئيس مجلس السيادة.

وعلى الجانب الآخر قدمت قوى الحرية والتغيير نفسها باعتبارها المظلة الواسعة الممثلة للغالبية العظمى للتيارات السياسية السودانية نظراً لانتظام العديد من الأطراف في عضويتها بما في ذلک الأحزاب التقليدية وأحزاب اليسار المتنوعة والتنظيمات المدنية غير الحزبية. لکن في حقيقة الأمر عجزت هذه المظلة عن تأدية أي دور فاعل بکفاءة منذ سقوط البشير بعدما عادت مظاهر التنافس المتعددة لتفرض مساحات کبيرة من التوتر بين القوى السياسية المختلفة لدرجة تحول بعض هذه الأحزاب کالحزب الشيوعي لمنابر رئيسية لمعارضة قرارات حکومة عبد الله حمدوک التي يفترض أنها تمثل بالأساس قوى الحرية والتغيير.

وبجانب التفکک الداخلي لدى المعسکرين المدني والعسکري، يظهر وجود اللاعب الثالث ذي الأهمية المتصاعدة ليفرض المزيد من السيولة على المشهد السوداني. حيث أسفر اتفاق جوبا للسلام الموقع في أکتوبر من عام 2020 عن دمج غالبية الفصائل والحرکات المسلحة في بنية الحکم الانتقالي في السودان من خلال عضوية مجلس السيادة ومجلس الوزراء، فضلاً عن احتفاظ الفصائل بحصة مؤثرة في المجلس التشريعي الانتقالي قيد التشکل. وتتمثل الأهمية الکبرى لانفتاح ترتيبات الحکم الانتقالي في السودان على الفصائل المسلحة في الطبيعة المزدوجة لهذه الفصائل والتي تتضمن کل منها جناحاً سياسياً وآخر عسکرياً بحکم النشأة وطبيعة النشاط.

وقد ساهمت هذه السيولة البنيوية الواضحة في التخفيف من حدة الاستقطاب الثنائي بين العسکريين والمدنيين في العديد من المواقف، عبر إبراز التنوع الکبير في الرؤى، والمساعدة على خلق توافقات عابرة للانقسام الأولي بين الجانبين. لکن في الوقت نفسه نالت هذه السيولة من تماسک بنية الحکم الانتقالي بعد أن تکررت المحاولات الانقلابية من جانب العسکريين، وبعد أن تکررت مظاهر الانقسام بين قوى الحرية والتغيير وداخل بعض مکوناتها کالانشقاق الذي شهده تجمع المهنيين السودانيين. کما سمحت هذه السيولة بتمثيل "مزدوج" للحرکات الانفصالية مکنت بعضها من لعب دور الشريک الثالث المرجح على النحو الذي جسده دعم عدد من هذه الفصائل لقرارات الفريق أول عبد الفتاح البرهان في أکتوبر 2021 بحل مجلسي الوزراء والسيادة.

3. الاستفادة من الدعم الخارجي

لعب الدعم الخارجي الدور الحاسم في دعم نموذج تقاسم السلطة في السودان منذ سقوط البشير. فبعد عقود من العزلة الدولية التي فرضت على السودان نتيجة لسياسات نظام البشير التي قامت على تأجيج الصراعات في الداخل والخارج، رأت العديد من القوى الدولية في التغيير السياسي في السودان فرصة کبيرة للعودة من جديد للنشاط في الساحة السودانية في ظل ما تتمتع به السودان من أهمية کبيرة کفاعل رئيسي في دوائر البحر الأحمر وشرق أفريقيا وحوض النيل. على هذا الأساس، انخرطت العديد من الأطراف في مساعدة الفرقاء السودانيين على تجاوز الخلافات الأساسية وصولاً للتوافق في أغسطس من عام 2019 والذي عکس العديد من المؤشرات المهمة في مقدمتها الاهتمام البالغ بالشأن السوداني من جانب دول الجوار المباشر وغير المباشر سواء في محيط السودان الأفريقي، أو حتى من دول شرق أوسطية تربطها بالسودان مصالح متعددة. لکن يظل المتغير الأبرز هو عودة الولايات المتحدة لتبني سياسة نشطة تجاه السودان.

ويفتح هذا الوضع الباب واسعاً أمام ارتهان التوازنات الداخلية بين شرکاء الحکم في السودان بتوجهات القوى الخارجية الکبرى والتي قد تشهد تغيرات جوهرية في المستقبل استجابة لمتغيرات داخلية أو إقليمية متعددة. کما يدفع الأطراف السودانية لتوظيف اشتباکها في ملفات إقليمية ودولية في تعزيز مکانتها في الداخل السوداني.

خامساً: تحديات ومحفزات نجاح الانتقال السياسي في السودان في ظل نموذج تقاسم السلطة الشامل

لا تعد السمات البنيوية في نموذج تقاسم السلطة في السودان هدفاً في حد ذاتها، فشمول نموذج تقاسم السلطة المتبع لکل الأطراف أو اقتصاره على بعض منهم، إنما يأتي في إطار سعي مختلف الأطراف السودانية لتحقيق غرض وظيفي يتمثل في الاجتياز الناجح للمرحلة الانتقالية وصولاً لانتخاب سلطة دائمة. وقد جاءت أزمة أکتوبر 2021 لتثير الکثير من الشکوک حول قدرة الشراکة الموسعة على البقاء والاستمرار في ظل تنامي مساحة الاستقطاب في المواقف، وذلک على الرغم من استمرار القواعد الأساسية الحاکمة التي يمکن من خلالها إعادة إطلاق هذه الشراکة على نحو ما تضمنته کافة الوساطات الدولية التي سعت لاحتواء الأزمة مبکراً. وفي هذا السياق يقدم نموذج تقاسم السلطة في السودان تحديات ومحفزات في الوقت نفسه لإتمام عملية الانتقال السياسي.

1. تحديات نجاح الانتقال السياسي

بالرغم من الفرص المتعددة التي قدمها نموذج تقاسم السلطة في السودان لإنجاح الانتقال السياسي، إلا أن الاتفاق بدوره فرض عدداً من التحديات والتي يمکن أن تحمل تأثيرات سلبية بالغة الخطورة على مستقبل العملية الانتقالية في السودان، وتشمل قائمة التحديات:

- إطالة أمد المرحلة الانتقالية

من بين أکثر القضايا التي أثارت خلافاً علنياً بين المجلس العسکري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير خلال مرحلة التفاوض بينهما مدة المرحة الانتقالية. فبينما أراد المجلس العسکري إقرار مرحلة انتقالية مختصرة تمتد بين عام وعام ونصف على الأکثر، أصرت قوى الحرية والتغيير على رأيها في تبني مرحلة انتقالية تمتد لأربع سنوات قبل إجراء أي انتخابات وذلک لضمان إتاحة الفرصة لهيئات الحکم الانتقالي للقضاء الجذري على نظام الإنقاذ. وفي ظل هذا الخلاف خرجت الوثيقة الدستورية لتقر مرحلة انتقالية تمتد لثلاث سنوات وثلاثة أشهر تنتهي في ديسمبر من عام 2022. لکن اتفاق السلام في جوبا جاء ليزيد هذه الفترة طولاً بواقع عام کامل لتنتهي المرحلة الانتقالية في السودان في عام 2024.

وحتى بعد إصدار قرارات الخامس والعشرين من أکتوبر 2021، لم يعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان عن انتخابات عاجلة، بل حدد يوليو 2023 موعداً لها الأمر الذي يعني استمرار تبني منطق الفترات الانتقالية الممتدة. ويبرز هذا الوضع إشکالية رئيسية تتعلق بالخروقات المتعددة للمدد الزمنية المقررة خلال الفترة التي أعقبت توقيع الوثيقة الدستورية، وهي الخروقات التي فتحت الباب أمام المزيد من التأجيل في حسم المسار الانتقالي في السودان. وتدعم الخبرة العالمية هذه المخاوف، حيث تؤکد أنه کلما کانت الفترات الانتقالية أکثر طولاً کلما زادت فرصها في الانتکاس، لما يتسبب فيه طول المدة من فقدان الزخم المحلي الدافع لانتقال سياسي شامل، ولفقدان الدعم الخارجي له حيث عادة ما يميل الخارج إلى تبني منطق التسويات بدلاً عن دعم التغيير الشامل کلما طالت الفترة الانتقالية.

- تعقيد إجراءات الانتقال السياسي

على الرغم من مرور أکثر من عامين على توقيع اتفاق أغسطس 2019 والذي تضمن التوافق بشأن الوثيقة الدستورية کمرجعية رئيسية لإجراءات الانتقال السياسي، لم يتم حتى الآن تشکيل المجلس التشريعي الانتقالي، ولا تزال المهام التشريعية تتم باشتراک مجلسي السيادة والوزراء. وقد کانت الطبيعة المرکبة لعملية تقاسم السلطة سبباً في إضافة المزيد من الصعوبات على مهمة تشکيل المؤسسة التشريعية والتي تعين أن تضم کافة الأطراف المشارکة من المؤسسة العسکرية إلى الأحزاب السياسية والقوى المدنية وصولًا إلى الحرکات والفصائل المسلحة. فقد تم إقرار مبدأ ضرورة مراعاة تکوين المجلس التشريعي تمثيل مکونات المجتمع السوداني بما فيها القوى السياسية والمدنية والمهنية والطرق الصوفية والإدارة الأهلية والحرکات المسلحة التي اکتسبت أحقية تسمية ربع أعضاء المجلس بموجب اتفاق جوبا.

ولا يُستثنى من عضوية المجلس التشريعي سوى أعضاء المؤتمر الوطني الذي حکم البلاد خلال سنوات البشير والقوى السياسية التي شارکت في النظام البائد حتى سقوطه. وبينما قد يکون من المهم لتدعيم اتفاق تقاسم السلطة أن تشمل مؤسسات الحکم الانتقالي أکبر عدد من الأشخاص الممثلين لمختلف القوى الفاعلة، إلا أن هذا التعقيد الشديد في عملية اختيار أعضاء المجلس التشريعي أدى إلى تجاوز نص الوثيقة الدستورية بشأن تشکيل المجلس في مدة لا تتجاوز التسعين يوماً من التوقيع عليها وهي المدة التي انتهت في أواسط نوفمبر 2019.

- استمرار عدم شمول اتفاق السلام اثنين من أهم الفصائل المسلحة

على الرغم من الحرص الکبير على اعتبارات التمثيل وشمول کافة الأطراف المؤثرة في بنية مؤسسات الحکم الانتقالي، لم ينضم للفصائل المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا کل من فصيل عبد العزيز الحلو في النيل الأزرق وجنوب کردفان، وفصيل عبد الواحد محمد نور في دارفور. ويحمل هذا الوضع تحدياً مستقبلياً في ظل کون الحرکتين من أکبر الحرکات المسلحة في السودان والتي تسيطر کل منهما على مساحات من أقاليم السودان الطرفية جنوباً وغرباً. ومما يزيد من تعقيد هذا الوضع المطالب السياسية المتقدمة التي يطالب بها الفصيلان والتي کان من المتعذر تضمينها في اتفاق تقاسم السلطة عام 2019 أو اتفاق السلام الموقع مؤخراً، وفي مقدمتها إقرار مبدأ علمانية الدولة السودانية وهو المطلب الرئيس لفصيل عبد العزيز الحلو والذي وقع بشأنه بروتوکول أولي مع رئيس الحکومة الانتقالية عبد الله حمدوک في أديس أبابا لکن من دون أن يتم معالجة القضية بصورة حاسمة.

الجدير بالذکر أن المهلة التي امتدت لأکثر من شهر کامل بين التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق في الحادي والثلاثين من أغسطس 2020 وبين توقيعه النهائي مطلع أکتوبر أقرت لمنح فرصة لإعادة دمج الفصيلين في اتفاق السلام وهو ما لم يتم على أرض الواقع، ليظل من المنتظر فرض الفصيلين "صفقة" صعبة على الحکومة الانتقالية لإتمام إنجاز ملف السلام في السودان. کما دخل هذا الملف کجزء من تعقيدات الوضع الحرج التالي على قرارات الخامس والعشرين من أکتوبر بعد أن وجه الفريق أول عبد الفتاح البرهان الدعوى لنور والحلو بالانضمام للفصائل الموقعة لاتفاق السلام کأحد بنود خطابه المقتضب.

- التداعيات السلبية لتأخر صياغة دستور دائم

جاءت الوثيقة الدستورية الموقعة عام 2019 لتتراجع –ضمنياً- عن مبدأ الفدرالية الذي أقرته دساتير السودان منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، إلا أن اتفاق السلام الموقع مع الحرکات المسلحة في أکتوبر 2020 قد منح حکومات الأقاليم السودانية –وبخاصة تلک التي کانت مسرحاً لصراعات مسلحة ممتدة- صلاحيات کبرى، قد تفتح الباب أمام تفکک فعلي للدولة السودانية إذا ما أسيء توظيفها. ويأتي هذا التناقض نتيجة لتأجيل عملية صياغة دستور دائم جديد للسودان، والذي لم يتم اتخاذ أي خطوات حقيقية بشأنه إلى الآن بعد أکثر من عام ونصف من سقوط البشير، حيث ينتظر أن يعالج الدستور الدائم هذه القضية المهمة من زاوية کلية تعالج العلاقة بين المرکز والهامش بصورة واقعية قابلة للنجاح في المستقبل، ولا تختلف من إقليم لآخر.

ويمکن لتشکيل مفوضية الدستور على نحو ما جاء في قرارات الخامس والعشرين من أکتوبر 2021 ومن ثم بدء عملها أن يکسب هذه القرارات قدراً من الشرعية خاصة إذا ما تم ذلک وفق نصوص الوثيقة الدستورية التي حددت طريقة تشکيل هذه المفوضية وحددت مهامها على نحو دقيق.

2. محفزات نجاح الانتقال السياسي

لم يکن بناء نموذج تقاسم السلطة المؤسسي والإثني في السودان نتاج توافقات سهلة، فقد استغرق التوصل لاتفاق تقاسم السلطة بين العسکريين والمدنيين أربعة أشهر، کما استغرق التوصل لاتفاق سلام بين الحکومة الانتقالية السودانية والفصائل المسلحة قرابة العام الکامل، شهدت فيها عملية التفاوض الکثير من مراحل التقدم البطيء والتعثر الکامل والجمود بل والانتکاس في بعض المناسبات. لکن إجمالاً، جاء إقرار تقاسم السلطة في السودان ليقدم مجموعة من الفرص التي يمکن أن تعزز من قدرة مؤسسات الحکم الانتقالي في السودان على المضي قدماً وصولاً إلى نهاية ناجحة للمرحلة الانتقالية، وذلک من خلال:

- إنهاء حالة الصراع الممتد

وهو الصراع الذي طال مناطق متعددة خاصة في غرب وجنوب السودان، وأنهک الدولة السودانية لعقود، وفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية. ومن شأن إنهاء مظاهر الصراع أن يؤدي إلى تحسين فرص السودان في استقبال الاستثمارات الخارجية في قطاعات مهمة کالزراعة والتعدين في المناطق التي کانت في الماضي مسرحاً للصراعات المسلحة. کما يسهم إنهاء حالة الصراع بقوة في تخفيف الضغط على الاقتصاد السوداني الذي کان يضطر للتعامل مع أعداد متزايدة من النازحين من مناطق الصراع إلى وسط السودان وضواحي العاصمة الخرطوم. ومما يعزز من فرص نجاح اتفاق السلام الأخير بين الحکومة السودانية والفصائل المسلحة المقاربة الشاملة التي تبناها في معالجة قضايا الصراع في السودان والتي لم تقتصر على التسويات السياسية والأمنية، بل امتدت لتعالج القضايا الجذرية کملکية الأرض وتقاسم الثروة والحقوق الثقافية والرمزية.

- تعزيز التوافق العام بشأن المرحلة الانتقالية

أبدت الکثير من الأطراف السودانية والأطراف الدولية المعنية باستقرار السودان إدراکاً مبکراً لحقيقة الوضع المعقد الذي تشهده البلاد. على هذا الأساس جرى التوافق على حاجة السودان للسير في مسار ثنائي المراحل يؤسس لحکومة انتقالية قائمة على الشراکة بين المدنيين والعسکريين قبل أن يوسع هذه المؤسسات لتضم الفصائل المسلحة کشريک رئيسي. ومن شأن توسيع قاعدة المشارکين في تشکيل مؤسسات الحکم الانتقالي أن يعزز من شرعية هذه المؤسسات في ظل التوافق على تأجيل أي مظهر من مظاهر تشکيل الهيئات المنتخبة حتى عام 2024، ومن ثم استحالة بناء شرعية أصلية عبر اللجوء للهيئة الناخبة. کما يتمتع تقاسم السلطة الشامل في السودان بقدرة على مد شرعية مؤسسات الحکم الانتقالي في مناطق الهامش بصورة خاصة، حيث ترى الکثير من القواعد الجماهيرية هناک في الحرکات المسلحة المتحدث الأمثل باسم القضايا ذات الطابع المحلي في ظل تمردها الممتد ضد حکومة البشير، الأمر الذي قد يساهم في تحقيق المزيد من التماسک خلال المرحلة الانتقالية.

- تضييق فرص عودة نظام الإنقاذ

من بين النتائج الإيجابية المتحققة بإقرار تقاسم السلطة في السودان ترسيخ التماسک بين کافة الأطراف التي صنعت التغيير في السودان بعد أن تعددت المؤشرات على وجود خلافات متکررة بينها، وذلک لمنع أي محاولة من نظام الإنقاذ للعودة للواجهة، والذي استغلت بعض عناصره مشکلات الهامش خصوصاً في الشرق والغرب في تأجيج التذمر من أداء مؤسسات الحکم الانتقالي وتصعيب مهمتها في إدارة البلاد في هذا التوقيت الحرج. فنظراً للطبيعة الأيديولوجية لنظام الإنقاذ، لا يزال رغم خروجه من السلطة يتمتع بوجود قواعد تأييد کامنة في العديد من مناطق السودان، الأمر الذي تم توظيفه مراراً في إشعال العديد من النزاعات القبلية والأهلية في بورتسودان وفي کسلا في الشرق وفي الجنينة وفتا بورنو في دارفور، وغيرها.

سادساً: سيناريوهات المستقبل

کشفت أزمة أکتوبر 2021 عن ارتهان مستقبل المرحلة الانتقالية السودانية بدرجة کبيرة بطبيعة العلاقة بين الشرکاء الممثلين في القوات المسلحة وقوات الدعم السريع وقوى الحرية والتغيير والفصائل المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا. ومع ارتفاع حدة الشقاق بين هؤلاء الشرکاء بات المسار الانتقالي مهدداً بعدم الاکتمال. وفي هذا الشأن يمکن استشراف مستقبل السودان من خلال ثلاثة سيناريوهات

1. استعادة نموذج تقاسم السلطة الشامل بوضعه الأصلي

وذلک من خلال عودة حکومة عبد الله حمدوک بکامل أعضائها وإلغاء کافة القرارات التي أصدرها البرهان على نحو ما طالب به حمدوک نفسه من التقى من الوسطاء الدوليين (للمبعوث الأممي للسودان فولکر بيرتس، وسفراء الولايات المتحدة والمملکة المتحدة والنرويج) بالعودة لوضع الرابع والعشرين من أکتوبر. ويعني هذا السيناريو -ضمناً- تراجع المؤسسة العسکرية عما أعلنه البرهان في الخامس والعشرين من أکتوبر، والتعجيل بتسليم رئاسة مجلس السيادة الانتقالي في نوفمبر 2021. ولا يتمتع هذا السيناريو بفرص کبيرة في التحقق لأسباب عديدة أبرزها صعوبة إخراج المؤسسة العسکرية من المشهد السياسي بفعل الضغوط الاحتجاجية، الأمر الذي لم ينجح في عام 2019 ويصعب أن ينجح في اللحظة الراهنة. هذا بجانب الانقسامات الحادة التي تضرب قوى الحرية والتغيير والتي قد تعيق قدرتها على تقديم بديل موحد.

2. ترميم نموذج تقاسم السلطة الشامل بمعالجات جديدة

وذلک من خلال نجاح الوساطات المتعددة في إقناع عبد الله حمدوک بقبول تولي رئاسة الحکومة الجديدة على أن يلتزم بالشرط الذي أعلنه البرهان بأن تکون حکومة تکنوقراط وهي الخطوة التي ستمنح إجراءات البرهان التصحيحية الکثير من الشرعية ويمکن أن تحتوي غضب قطاعات واسعة من المحتجين. ومما قد يساعد على نجاح هذا المسار مساهمة قبول حمدوک رئاسة الحکومة في موافقة أطراف سياسية الأخرى قبول "التعويض" المقترح لخسارتها مواقعها في مجلسي الوزراء والسيادة من خلال منحها مناصب في المؤسسات التي لم يتم تشکيلها بعد ممثلة في المجلس التشريعي والمفوضيات الوطنية التي أقرتها الوثيقة الدستورية ولم يتم تشکيلها، وهو ما قد يلعب دور مؤثر في ترميم نموذج تقاسم السلطة ومن ثم تدعيم مسار المرحلة الانتقالية على المستوى التمثيلي والوظيفي کذلک.

3. انهيار نموذج تقاسم السلطة الشامل

ويقوم هذا السيناريو على السير في المسار الجديد الذي أعلنه البرهان من خلال إسناد رئاسة الحکومة لشخصية تکنوقراطية بديلة لعبد الله حمدوک وإنهاء أي دور للأحزاب في تشکيل الحکومة ومجلس السيادة واستبعاد قوى الحرية والتغيير من أي مشارکة في مؤسسات الحکم الانتقالي. فعلى الرغم من إعلان البرهان المبکر أن حمدوک يظل المرشح الأول لرئاسة حکومة التکنوقراط الجديدة، قد لا تتاح فرصة کاملة لتحقيق هذا التصور في ظل ما أبداه حمدوک من رفض مبدئي لرئاسة أي حکومة بعيداً عن حاضنته السياسية الممثلة في قوى الحرية والتغيير. ووفق هذا السيناريو ستتحمل المؤسسة العسکرية بالأساس مدعومة ببعض الفصائل المسلحة المشارکة في اتفاق سلاک جوبا مسؤولية دعم الحکومة التکنوقراطية سياسياً واقتصادياً الأمر الذي سيضعها تحت ضغط شعبي هائل في ظل الأوضاع المعيشية المتردية وهو ما سيضاف للضغط السياسي السابق لتشکيلها من الأصل.

خاتمة

مما سبق يمکن الخلوص لعدد من النتائج الختامية التي تجيب عن الأسئلة التي طرحتها الدراسة بشأن تجربة تقاسم السلطة الشامل في السودان وما شهدته من مراحل متباينة. إذ تشير التجربة السودانية إلى أن الشراکة الموسعة التي جمعت المؤسسات العسکرية والأحزاب والقوى المدنية والفصائل المسلحة في السودان إنما جاءت لأسباب ظرفية بالأساس دون وجود قاعدة راسخة من التوافق بشأن المبادئ الحاکمة ولا الإجراءات الانتقالية الأمر الذي عرض هذه الشراکة لاضطرابات متوالية منذ نشأتها الأولى. کما تقدم التجربة الانتقالية السودانية منذ عام 2019 حالة تختلط بها مؤشرات التقييم الإيجابية والسلبية. فعلى الجانب الإيجابي لا يزال الطابع الغالب على هذه المرحلة هو الطابع السلمي والذي سمح للمرحلة الانتقالية بالاستمرار على الرغم من الأزمة الحادة التي شهدتها البلاد بعد الإطاحة بحکومة عبد الله حمدوک. لکن على جانب آخر ظهرت الخلافات العميقة بين الشرکاء الرئيسيين للحکم الانتقالي وداخل کل مکون منهم لتضع جذور لعرقلة إتمام الانتقال أو أخذه في مسار الانتکاس حتى بعد إجراء انتخابات وإتمام نقل السلطة لهيئات دائمة جديدة.

وقد أملت الضرورة على مختلف الأطراف السودانية تبني نموذج تقاسم السلطة الشامل لأسباب متعددة أبرزها التباين الشديد في طبيعة المکونات العسکرية والمدنية والانفصالية المسلحة والتي لم يکن من الممکن استبعاد أي منها في ظل حيازة کل منهم "قدراً" من الشرعية. فبينما تمثل القوات المسلحة وقوات الدعم السريع رمز سيادة الدولة واستمرار مؤسساتها في ممارسة السيادة الفعالة، تمثل قوى الحرية والتغيير الشرعية الجديدة المستمدة من الحراک الاحتجاجي. وفي الوقت الذي يترکز فيه دور کل من المؤسستين العسکريتين وقوى الحرية والتغيير في السودان النيلي والمراکز الحضرية الرئيسية، تتمتع الفصائل المسلحة بشرعية تمثيل مصالح الهامش الجغرافي ذي الثقل السکاني الکبير غرباً وجنوباً وشرقاً.

ويرتهن نجاح الانتقال السياسي الصعب في السودان باستقرار واستدامة نموذج تقاسم السلطة الشامل إلى حد بعيد، وقدرة الشرکاء على تجاوز ما قد ينشأ بصورة طبيعية من أزمات في العلاقة بينهم وفق المرجعيات الرئيسية الممثلة في الوثيقة الدستورية واتفاق سلام جوبا. فعجز هذا النموذج عن استيعاب کافة الأطراف المؤثرة في المشهد السوداني يمکن أن يسفر عن انتکاس المسار الانتقالي کلياً، وانفتاح السودان على التفاعلات الصراعية والعنيفة من جديد في تکرار لما شهدته البلاد حتى سقوط البشير في ابريل من عام 2019. لکن يظل من المهم إبداء کل الحرص على ألا يؤدي نجاح نموذج الانتقال السياسي إلى المزيد من تفکک الدولة السودانية، خاصة في ظل ما آلت إليه تجربة اتفاق السلام الشامل الموقع عام 2005 والذي أدى في النهاية إلى انفصال الجنوب في عام 2011. ويضع هذا الهاجس الکثير من الأعباء على کاهل مؤسسات الحکم الانتقالي في الاحتواء العاجل لکافة المشکلات الجذرية في مناطق دارفور والنيل الأزرق وجنوب کردفان على وجه الخصوص.

ومن شأن تمکن تقاسم السلطة الشامل في إنجاح الانتقال السياسي في السودان أن يقدم نموذجاً إقليمياً قابلاً للتکرار في حالات مشابهة متعددة، أبرزها الحالتان الإثيوبية والصومالية والتي تتشابه مع السودان إلى حد بعيد في التعقيد والتشابک على المستويين المؤسسي والإثني، وهو ما تتزايد الحاجة له في ظل أزمة الاندماج العميقة التي فجرها الصراع في إقليم تيجراي في إثيوبيا، وفي ظل التعثر المزمن للعملية السياسية في الصومال. على هذا النحو ترتفع أهمية نجاح التجربة السودانية والتي لن تقتصر عوائدها الإيجابية على الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية في السودان، وإنما ستعزز بقوة من المکانة الإقليمية للسودان لتقدم نموذجاً رائداً لإدارة المراحل الانتقالية وفق إجراءات تتسم بقدر کبير من التعقيد والعمق بما يتناسب مع طبيعة التحديات على أرض الواقع.