المکون اللغوي کمحرک للصراعات الإثنية في العلاقات الدولية إقليم کيبک في کندا (دراسة حالة)

نوع المستند : مقالات سیاسیة واقتصادیة

المؤلف

کلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، جامعة الإسکندرية

المستخلص

يلقي هذا البحث الضوء على دور الهوية وخاصةً المکون اللغوي کمحفز للصراعات الاثنية ودوره في تصاعد مطالب الجماعات الانفصالية، ويرکز على مطالب حرکة قومية کيبيک بإقامة کيبيک کدولة مستقلة ذات سيادة، ومدى وجود محاولات مختلفة للربط بين المکون اللغوي کجزء أساسي من هويتها ومطالبتها بالاستقلال، ووجدنا أن مطلب سيادة کيبيک يتأثر بالعديد من المحددات فيما يتعلق بانفصال کيبيک عن کندا مثل العوامل التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها. کما يتتبع البحث الأسباب والمحفزات من وراء رغبة سکان إقليم کيبيک في الانفصال، وأصول الانقسام اللغوي في کندا، فضلاً عن معرفة مدى تجذره، وتطوراته، ويناقش کيفية مواجهة کندا لقضية التفکک والانفصال، ومدى استجابة الحکومات الفيدرالية المتعاقبة مع مطالب مقاطعة کيبيک بانفصالها عن کندا وآلياتها لإدارة هذا الصراع من قبل الحکومات الکندية المتعاقبة، وتأثيرها على السياسات الداخلية في کندا، ويرکز حول حق "تقرير المصير" لکيبيک، والحديث عن هوية شعب کيبيک وکأنها "أمة داخل أمة"، واستعراض مواقف الدول الکبرى ذات الصلة بالصراع. وأخيرًا، يبلور البحث بعض المآلات المستقبلية للصراع الاثني في إقليم کيبک بکندا.

الكلمات الرئيسية

الموضوعات الرئيسية


مقدمة:

لا شک أن اللغة تعد أحد العوامل والمکونات التي تلعب دورًا مهمًا في عملية تشکيل أي هوية وطنية national identity للجماعات العرقية أو الإثنية، ويمکن القول أن مشارکة التحدث باللغة نفسها بشکل جماعي يمنح المجتمعات الشعور بالانتماء الوطني بأنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع، أي أنهم ينتمون إلى الأشخاص الذين يشارکون ثقافة معينة شکلها التاريخ والسياسة؛ ومن ثم، يتعين علينا دراسة مدى تأثير قضايا الهوية المختلفة کاللغة، الثقافة، والدين، وما إلى ذلک، على حق تقرير المصير Self-determination والانفصالية separatism ونشوء أزمة هوية. ومن يتمعن بالنظر في دولة کندا، وفي تاريخها يدرک أن هذه الدولة مرت بالعديد من الأحداث التاريخية، التي تمخض عنها تکوين دولة کندا، ومقاطعة کيبيک على وجه الخصوص. وکذلک، تعددت الأسباب التي نشأ منها الصراع بين الفرانکوفون "الکنديين الفرنسيين" والأنجلوفون "الکنديين الإنجليز"، وظهور النزعة الانفصالية في کيبيک؛ رغم وقوف اللغة الفرنسية على قدم المساواة مع اللغة الإنجليزية کلغة رسمية في البلاد؛ وفقًا للدستور الکندي.

تعد کيبيک واحدة من ثلاث عشرة مقاطعة في کندا، وتعتبر ثان أکثر المقاطعات ازدحامًا بالسکان في کندا بعد أونتاريو، وهي المقاطعة الوحيدة التي يتحدث أغلبية سکانها بالفرنسية، مع اعتبار الفرنسية اللغة الرسمية الوحيدة للمقاطعة. ولقد أراد الکثير من الکنديين الفرنسيين أن تکون لهم دولتهم الخاصة، لطالما سئموا من کونهم أقلية منذ فترة طويلة ( )، وبمرور السنوات، وُجد معسکران تجاه الصراع القائم على رغبة کيبيک في الاستقلال؛ نظرًا لتمايز هويتها، وهما معسکر أنصار أو دعاة السيادة "السياديون" Sovereigntists أي "مؤيدي استقلال کيبيک"، أو ما يُمکن أن يُطلق عليه "الانفصاليون" الذي قدموا موقفًا قائمًا على تصوير الدولة الکندية على أنها نظام إمبريالي يعتدي على کيبيک وشعبها، ومن ناحية أخرى، معسکر الفيدراليون Federalists أي "أنصار کندا الموحدة" الذين اعتمدوا عادةً على التعبيرات السلبية للإشارة إلى الاستقلال، مثل الانفصال والتفکک، وتصوير دعاة استقلال الکيبک على أنهم غير أمناء ( )، وتمثل "حرکة کيبيک" مجموعة سياسية تهدف إلى الانفصال عن الحکومة الکندية، ولقد استمرت مطالبتها بفصل کيانها عن کندا منذ ستينيات القرن العشرين خلال ما يُسمى بـ"الثورة الهادئة" ( )، وهو ما سيتم شرحه لاحقًا.

أهمية البحث:

▪ يمثل البحث إسهام متواضع فيما يتعلق بأحد أهم الصراعات الاثنية في العلاقات الدولية وبلورة أهم محفزاته ألا وهي اللغة کأحد مکونات الهوية، وکذلک، محدداته وتطوراته ومآلاته وخاصة أن الدراسات الإثنية أصبحت محور اهتمام عدد کبير من الباحثين.

▪ يرکز البحث على تفسير العلاقة بين الهوية والصراع الدولي وحدود التأثير الذي يمکن أن تمارسه الهوية -ومن مقوماتها اللغة -في تحريک الصراع الدولي.

▪ تناقش هذه الدراسة التطورات التي شهدها الصراع الاثني في إقليم کيبک في کندا حيث شکلت اللغة محور هذا الصراع.

المشکلة البحثية:

 يکمن التساؤل الرئيسي للدراسة في:

لماذا وکيف استطاع المکون اللغوي -کأحد مکونات الهوية -أن يکون محرکًا أساسيًا للصراعات الإثنية في إقليم کيبک في کند؟

تساؤلات فرعية:

● کيف أثرت الحدود الجغرافية الموروثة عن الاستعمار على الصراع في إقليم کيبک في کندا؟

● إلى أى مدى تتمتع الأقلية اللغوية في کيبک بعدالة المشارکة في الحياة السياسية؟

● کيف أثرت العوامل الديموغرافية على الصراع في إقليم کيبک الکندي؟

● هل لعب الدين دورا محفزا للصراع في إقليم کيبک في کندا ؟

● هل نجحت اللغة في خلق حاجز نفسي بين کيبک وغيرها من الأقاليم الکندية؟

● کيف أثرت العوامل الاقتصادية والموارد الطبيعية على الصراع في إقليم کيبک في کندا؟

● ما هو دور المحددات الدولية في رسم معالم الصراع في إقليم کيبک في کندا ؟

هدف البحث: يتجلى الهدف الرئيسي للبحث في الوقوف على أسباب رغبة سکان إقليم کيبيک في الانفصال، وذلک من خلال تحري الدقة بشأن قوة الحرکة الانفصالية في کيبيک واستراتيجيات إدارة الصراع من قبل الحکومات الکندية المتعاقبة، فضلاً عن معرفة مدى تجذره، وتطوراته، وسيناريوهات حلوله، وإمکانية انفصال الإقليم، واحتمالات بأن يکون إقليم له حکم ذاتي، وإعطاء شعب کيبک حق تقرير المصير، واستعراض مواقف الدول الکبرى ذات الصلة بالصراع.

الإطار الزمني للبحث: تعالج هذه الدراسة الفترة الزمنية الممتدة منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي مرورًا بفترة الحرب الباردة ونهايتها وحتى عام 2021، حيث شکلت فترة الستينيات نقطة فاصلة في تاريخ کيبيک، حيث شهدت تلک الفترة أحداث هامة وأنماط جديدة من التفاعلات الدولية في ظل وجود لاعبين دوليين جدد.

تقسيم البحث: ونتناول ذلک من خلال أربعة محاور رئيسية على النحو التالي:

 تمهيد: المکون اللغوي کمحفز للصراع وموقعه من النظرية البنائية الاجتماعية

 المبحث الأول: النزعة الانفصالية في إقليم کيبيک: الدوافع والأسباب

 المبحث الثاني: استراتيجيات إقليم کيبيک نحو الاستقلال

 المبحث الثالث: آليات إدارة الصراع في إقليم کيبک

 المبحث الرابع: السيناريوهات المستقبلية المحتملة للصراع الاثني في کيبک

 خاتمة: وتتضمن أبرز ما تم التوصل إليه البحث من نتائج

تمهيد

 المکون اللغوي کمحفز للصراع وموقعه من النظرية البنائية الاجتماعية:

ظهرت النظرية البنائية الاجتماعية Socio-constructivism ارتباطًا بمستجدات الواقع الدولي لعالم ما بعد الحرب الباردة، کاتجاه تحليلي جديد بزغ نجمه في تحليل السياسة الدولية، يرفض کل الاتجاهات التقليدية ( )، إذ ظهر مع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي کأحد أبرز التحديات التنظيرية التي تجابه النظريات الرئيسة السائدة ممثلة في الواقعية الجديدة والليبرالية الجديدة، وفي ظل إدراک بعض محللي العلاقات الدولية أن النظريات السائدة ليس بمقدورها تقديم تفسير للتغيرات الدولية الحادثة آنذاک، وقد أُدخل مصطلح البنائية في العلاقات الدولية من خلال کتابات نيکولاس أونف Nicholas Onuf عام 1989؛ ومن ثم، تطور کمدخل تحليلي على أيدي ألکسندر وينت Alexander Wednt، ولاقى قبولاً واسعًا؛ نتيجة لعوامل عديدة منها نهاية الحرب الباردة، وخيبة الأمل الکبيرة في النظريات الکبرى للعلاقات الدولية وترکيزها على المسائل المادية، والقضايا الأمنية الصعبة في العلاقات الدولية، وبروز أهمية مشکلات الهوية في العلاقات الدولية المعاصرة، فالبنائية ليست مجرد نظرية، وإنما هي مدخل تحليلي عام قوامه أن العلاقات الدولية شيدت اجتماعيًا ( ). فمثلاً يرى البنائيون أن أمور ومسائل کالفوضى والسيادة والهويات والبحث عن الأمن ليست قدرًا محتومًا دائمًا، کما يقول أتباع المداخل الرئيسية کالواقعية، ولکن يُمکن تعديلها حالما تقتضي الضرورة، مثل معضلة الأمن التي تعد من المعضلات الرئيسية في السياسة الدولية، فتبعًا للفکر البنائي؛ لا ترتبط هذه المعضلة فحسب ببناء القوة المادية، وإنما يمکن التعامل معها تبعاً لتفاهمات جماعية بين الدول. کما يؤمن الفکر البنائي أن العوامل الاجتماعية تؤثر في التفاعل البشري، والبنى الاجتماعية تساعد في تشکيل مصالح وهويات الفاعلين، کما أن الفاعلين والبنى يشکل کل منهما الآخر ( ).

وعليه، لا ترکز البنائية على العوامل المادية مثل القوة والتجارة؛ وإنما ينصب اهتمامها على تأثير الأفکار، فهي تنظر إلى مصالح وهوية الدولة باعتبارهما نتاجًا طبيعيًا لعمليات تاريخية محددة، ويرکز البنائيون اهتمامهم على تحليل طبيعة الخطاب السائد في المجتمع باعتبار أنه يعکس ويشکل المعتقدات والمصالح ويحدد القواعد المقبولة للسلوک، ومنطلق هذا الفکر البنائي أننا صرنا بصدد عصر يتحدى المعايير القديمة، حيث الحدود بين الدول آخذة في التلاشي، وقضايا الهوية أضحت أکثر بروزًا؛ وعليه، فمن الطبيعي أن توضع هذه القضايا في بؤرة الاهتمام، وباتت القضية الأبرز في ظل عالم ما بعد الحرب الباردة هي الکيفية البنائية، التي تحدد بها الجماعات البشرية هوياتها ومصالحها، إذ ترکز البنائية إذا على کيفية نشأة الهويات والأفکار وتطورها وکيف أنها تشکل وسيلة الدولة في فهم المواقف الدولية والتعامل معها، بمعنى هل يعرف الأوروبيون أنفسهم ارتباطاً بقومياتهم أم برابطة الاتحاد الأوروبي؟، وهل يضع الألمان واليابانيون في الاعتبار ماضيهم التوسعي، وبالتالي يتطلعون إلى دور أکبر في الساحة الدولية؟ ( ).

المبحث الأول

النزعة الانفصالية في إقليم کيبيک:الدوافع والأسباب

1) السياق الاجتماعي والتاريخي للصراع في إقليم کيبک: Socio-Historical Context

    يرجع اکتشاف الساحل الغربي لأمريکا الشمالية إلى "جون کابوت" Jean Cabot،- وهو بحار من جنوة في خدمة البحرية البريطانية- وکان ذلک عام 1497 ( )، ولکن في هذه الفترة تقريبًا، کان البر الرئيسي لأمريکا، شمال مقاطعة المکسيک الإسبانية، غير مأهول من قبل أي شعب أوروبي حتى انطلقت أول محاولة مؤکدة للإعمار من قبل الفرنسيين. ( ) فلقد کان الفرنسيون هم الذين اکتشفوا لأول مرة، في منتصف القرن السادس عشر، تلک المنطقة التي ستُعرف باسم کندا فيما بعد ( )، بعد اکتشاف بحار فرنسي يُدعى "جاک کارتييه" Jacques Cartier لهذه المنطقة المحيطة بنهر سانت لورانس، بعد أن وصل إليها عام 1534، وأُطلق عليها اسم فرنسا الجديدة Nouvelle France بالفرنسية أوNew France ( ) ، وأنشأ الفرنسيون مستعمرات على طول نهر سانت لورانس في أوائل القرن السابع عشر ( )، بما في ذلک تأسيسهم لبورت رويال عام 1605 ثم مستوطنة کيبيک عام 1608 ( ).

   وبينما استقر المستعمرون الإنجليز على طول جزء کبير من ساحل المحيط الأطلسي في أمريکا، سيطر الفرنسيون على المنطقة المحيطة بالبحيرات الکبرى ووادي سانت لورانس، حتى أصبحت کيبيک مقاطعة ملکية تابعة لکندا أو فرنسا الجديدة رسميًا عام 1663، والتي تُدار وفقًا للقانون الفرنسي ( )، وکانت المنطقة الواقعة شمال وغرب فرنسا الجديدة تحت الحکم البريطاني لشرکة خليج هدسون Hudson Bay Company، التي تأسست عام 1670؛ بهدف ممارسة التجارة في الجلود والفراء، وفي هذه المرحلة، عاش ممثلو الثقافات الأوروبية المعنية في سلام جنبًا إلى جنب في البداية. ( )

وخلال القرن الثامن عشر، امتد الصراع بين بريطانيا وفرنسا إلى المستعمرات الأمريکية ( )؛ فلقد اندلع قتال عنيف بين الإنجليز والفرنسيين من أجل السيادة، حتى استولت القوات البريطانية عام 1745 على حصن لويسبورغ Louisbourg الفرنسي في نوفا سکوشا Nova Scotia، واستولى الجيش البريطاني على معقل کيبيک في عام 1759 ( )؛ مما أدى إلى انتصار بريطانيا في نهاية المطاف عام 1759 واستيلائها على الممتلکات الفرنسية ( )، کمدينة مونتريال Montreal في العام التالي 1760؛ ووفقًا لمعاهدة باريس عام 1763، کان على فرنسا أن تتخلى عن سيادتها في کندا، التي أصبحت مستعمرة بريطانية، وفي عام 1931، نالت کندا والدول الأخرى الخاضعة للهيمنة البريطانية على استقلالها وعضوية British Commonwealth of Nations الکومنولث البريطاني للأمم. (

2) تعاظم الفجوة بين هويتين: We Versus Them

مما لا شک فيه أن القضايا السياسية ترکزت حول المطالبة بدولة متجانسة عرقيا، بوجود صراع بين کندا "البريطانية" من جهة، وکيبيک "الفرنسية" من جهة أخرى، وهم أحفاد 10 آلاف مستعمر فرنسي استقروا في کيبيک في القرنين السابع عشر والثامن عشر يشکلون "أمة أي کلًا متجانسًا اجتماعيًا يحدده ثقافته"، وکانت الرغبة في الدفاع عن ثقافتهم ضد الطوفان الساحق من إنجلترا والولايات المتحدة هي وراء الحرکة الانفصالية، إذ ادعى الانفصاليون أنه إذا لم يکن لديهم دولتهم الخاصة، والتي من شأنها حماية لغتهم وعاداتهم، فلن تنقرض لغتهم فحسب، بل ستنقرض أيضًا التقاليد والعادات التي ترعرع عليها أجيال کاملة، بل وکان من المفترض أن يکون أساس الدفاع عن کل هذه السلع الاجتماعية هو دولة کيبيک المتجانسة إثنيًا بلغتها الخاصة بها والمليئة بالدلالات الثقافية ( ).

ويرجع ذلک تاريخيًا إلى اعتماد الحکومة البريطانية بالمقاطعة القانون الإنجليزي؛ مفترضةً في البداية أن سن القانون الإنجليزي بجانب تدفق المستوطنين الإنجليز سيغرق المجتمع الصغير الناطق بالفرنسية، ولکن على خلفية الصراع المتزايد مع المستعمرات الثلاثة عشر التي ستصبح الولايات المتحدة فيما بعد، نظرت بريطانيا إلى المتحدثين بالفرنسية بعين الدعم. ( ) وأصدرت بريطانيا العظمى عام 1774 ما يسمى بـ"قانون کيبيک" Quebec Act الذي يضمن للسکان الفرنسيين-من بين أمور أخرى- الحق في التحدث بالفرنسية ( )؛ کما سمح هذا القانون باستمرارية القانون المدني الفرنسي والنظام الفرنسي شبه الإقطاعي لحيازة الأراضي، فضلاً عن حماية الدور المرکزي للکنيسة الکاثوليکية في مجتمع کيبيک؛ ومن ثم، احتفظت کيبيک بالطابع الفرنسي الغالب ( )، ونستطيع أن نقول أن قانون کيبيک يعد وثيقة هامة للغاية وجدت انعکاسها في التميز الثقافي واللغوي المعاصر في کيبيک، کما مکَن الکنديين الفرنسيين من الحفاظ على دينهم الکاثوليکي وثقافتهم المنفصلة ( ).

بينما ظل غالبية السکان الناطقين بالفرنسية مجتمعًا زراعيًا يعيش تحت نفوذ ملاک الأراضي المحافظين والکنيسة، سيطرت الأعداد الصغيرة من المستوطنين الإنجليز على التجارة والصناعة، کما استوطنت بقية کندا من قبل الموالين لبريطانيا الذين فروا من الولايات المتحدة بعد 1776، ومن خلال الاستيطان المستمر من بريطانيا وأيرلندا ( )؛ ونتيجة للتدفق الهائل للمستعمرين البريطانيين من أوروبا في نهاية حرب الاستقلال الأمريکية (1755-1783)، کانت الأقلية الفرنسية تخشى فقدان هويتها الوطنية. ولقد أصبح الوضع أکثر دراماتيکية عندما وصل الموالون الهاربون من الثورة الأمريکية، وتسبب عدد کبير من السکان الجدد الناطقين باللغة الإنجليزية في توترات في العلاقات مع الفرنکوفونيين المحليين ( ).

أطلق المستوطنون الفرنسيون الأوائل على أنفسهم الکنديين Canadiens؛ بهدف صريح هو تمييز أنفسهم عن الشعب الفرنسي المتروبولية metropolitan، وبذل أوائل الکتاب التاريخيين والمستکشفين جهدًا لوصف عاداتهم وطريقة حياتهم التي کانت مختلفة بالفعل، ومنذ ذلک الحين، ظل هذا التعريف الذاتي للکنديين متجذرًا بعمق في خيال سکان کيبيک الناطقين بالفرنسية Francophone Quebecers، وحتى الستينيات من القرن العشرين، استمر الناطقون بالفرنسية الأکبر سنًا في تعريف أنفسهم على أنهم کنديين Canadiens، حيث ميزوا أنفسهم من الناطقين بالإنجليزية Anglophones، الذين أطلقوا عليها اسم Les Anglais، ويظهر هنا جانبان أساسيان للهوية: تعريف الذات، والإشارة إلى الآخر کمعارض، وابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، استحوذ السکان من أصل إنجليزي تدريجيًا على الهوية الکندية؛ مما دفع الکنديين- الناطقين بالفرنسية- Canadiens إلى تعريف أنفسهم على أنهم کنديين فرنسيين ( ).

وقسم قانون الدستور Constitution Act لعام 1791 مقاطعة کيبيک إلى کندا العليا وکندا السفلى؛ ففي کندا العليا، شکَل المستعمرون البريطانيون الأغلبية، بينما ساد المستعمرون الفرنسيون في کندا السفلى، وفي عام 1837 اندلعت انتفاضة ضد الإنجليز في کيبيک، ولکن سرعان ما تم قمعها، وتم ضم هذين الجزأين مرة أخرى إلى مقاطعة کندا عام 1840، وأعلنت إنجلترا عام 1867 ما يسمى بـــ"قانون أمريکا الشمالية البريطاني" British North America Act الذي تم بموجبه إنشاء دولة کندا، وکان من المفترض أن يؤدي إنشاء دولة کندا إلى منع ضم الولايات المتحدة للمقاطعة ( ).

وبعد فشل اتحاد کندا العليا والسفلى، شهد الاتحاد في عام 1867 ظهور هويتين متوازيتين هما الفرنسية الکندية والإنجليزية الکندية، وقد وصف اللورد دورهام Lord Durham هذه الحالة عام 1838 على أنها الدولتان المتحاربتان في حضن دولة واحدة"، وکما قال أندريه سيغفريد Andre Siegfried في عام 1912، أن العرقين أُجبرتا على إعادة تعريف کندا معًا، ومن وجهة النظر الفرنسية الکندية، کانت کندا التي تأسست في شکل کونفدرالية ثنائية القومية Binational Confederation لمدة قرن تقريبًا بين عامي 1867 و1967. وخلال هذه الفترة، عُرف قانون أمريکا الشمالية البريطاني على أنه ميثاق/اتفاق بين دولتين أو شعبين مؤسسين، ولم يشر دستور عام 1867 إلى دولة کندية. بدلاً من ذلک، وصف بأنه إنشاء اتحاد فيدرالي Federation يعترف ببعض خصوصيات کندا الفرنسية من ناحية والطابع البريطاني لبقية کندا من ناحية أخرى. أظهر جوردون روبرتسون Gordon Robertson بوضوح أن آباء الاتحاد کانوا مقتنعين بالحاجة إلى الحفاظ على شکلين من التنوع: التنوع الإقليمي، والتنوع اللغوي والثقافي ( )، فلقد أعطى قانون أمريکا الشمالية البريطاني (الکونفدرالية) اللغة الفرنسية وضعًا قانونيًا وسياسيًا حقيقيًا، ولکن في الوقت نفسه، أعطت الفرنسية شريکًا قويًا: اللغة الإنجليزية، وعملت هذه الازدواجية ضد الفرنسية وعززت عدم المساواة بين اللغتين؛ ونظرًا للهيمنة المتزايدة للغة الإنجليزية، ضعفت اللغة الفرنسية وقلت قيمتها.

أُنشئت الدولة الکندية عن طريق الهجرة، وقد تم تأسيسها من قبل "شعبين مؤسسين اثنين"، هما مستوطنون من فرنسا من جهة، ومن بريطانيا وأيرلندا من جهة أخرى، وهما ذو ثقافتان أوروبيتان متمايزتان لهما تقاليد لغوية ودينية وسياسية مختلفة، ويعد وجود اتجاهين ثقافيين متوازيين -استوعبا المهاجرين في وقت لاحق- سمة دائمة للمجتمع الکندي؛ مما أثر بعمق على طبيعة الدولة الکندية وسلوک السياسة الکندية، ولکن بدلاً من تقلص الفجوة بين الاتجاهين بمرور الوقت، زادت الاختلافات بينهما في السنوات الأخيرة وتمخض عنها ضغوطًا، من جانب واحد على الأقل؛ من أجل إعادة التفاوض بشکل جوهري بشأن الميثاق الأساسي لکندا ککيان سياسي ( )، فلقد کان مفهوم تجانس الدولة يعني أنه من المتوقع اندماج المهاجرين وتأقلمهم مع النواة الناطقة بالفرنسية، والسبب في ذلک هو حقيقة أن الهجرة کان يُنظر إليها دائمًا في کيبيک على أنها نوع من التهديد ( ).

بلغ عدد سکان کندا في منتصف التسعينيات من القرن العشرين إبان انعقاد الاستفتاء الثاني عام 1995 26 مليون نسمة؛ يتألف منهم ما يزيد قليلاً عن 6 ملايين ناطق بالفرنسية (معظمهم ولکن ليس کلهم يعيشون في کيبيک) و20 مليون تقريبًأ يتحدث باللغة الإنجليزية ولغات أخرى، إذ يشمل المکون غير الناطق باللغة الإنجليزية السکان الأصليين لکندا، وبعض المهاجرين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي حين أن القليل منهم تعلموا الفرنسية، اتخذ معظمهم اللغة الإنجليزية کلغة ثانية؛ بسبب هيمنتها في کندا وعلى الصعيد الدولي ( ).

وعلى عکس النموذج melting pot، الذي أسس الولايات المتحدة بناءً على إدماج المهاجرين بإزالة معالم ثقافاتهم وصهرها داخل بوتقة الثقافة الأمريکية المستحدثة، بما في ذلک تحويل أسماءهم لتأخذ الصبغة الأمريکية، ظلت کندا حتى منتصف القرن العشرين أمة بريطانية في جوهرها ومرجعيتها؛ مستندةً إلى النموذج الثقافي البريطاني، کما فرض وجود أقلية فرانکفونية يفوق تعدادها ربع سکان البلاد، انفتاح على مفهوم الأمتين المؤسستين-الإنجليزية والفرنسية-، وانعکس هذا التصور للهوية الکندية على سياسة الهجرة التي کانت وفية لهذه المرجعية الثقافية الأوروبية، إذ اقتصرت حرکة الهجرة إلى کندا على العناصر الأوروبية حتى عام 1967، ذلک العام الذي شهد إصلاح قوانين الهجرة وفتح أبواب کندا أمام المهاجرين المنتمين إلى دول وثقافات غير أوروبية، وهي الفترة التاريخية نفسها التي بدأت فيها بوادر التعددية الثقافية في السياسات الحکومية الکندية ( ).

منذ السبعينيات وحتى النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، تبنت الحرکة الانفصالية الکيبيکية مقاربة إيجابية تقوم على بناء الدولة الکيبيکية وتأکيد حضور الکيان الکيبيکي تجاه الدولة الکندية، وحماية اللغة والثقافة الفرنسية، ولکن بعد فشل استفتاء عام 1995، اتخذت مقاربة سلبية اعتمدت على التمييز بين الجماعة القومية (نحن)، والأجانب عن الثقافة الکيبيکية (هم) ( )، ووفقًا للسياسي الکيبيکي الليبرالي "ستيفان ديون" Stéphane Dion؛ - الذي ترأس الحزب الليبرالي الکندي لفترة- تکمن دوافع الانفصال في ثلاث نقاط، هي الخوف من الشعور بالوهن أو التلاشي کجماعة لها تميزها الخاص في ظل استمرارها بدولة اتحادية، والشعور بالثقة بأن أداء جماعة کيبيک سيسير بشکل جيد أو أفضل في حالة الانفصال عن الاتحاد، وأنه لن يمثل خطورة على الجامعة الوطنية، الشعور بالرفض بأن جماعة کيبيک ليست في موضع ترحيب بالدولة الاتحادية. ومن ثم؛ فإن الانفصال هو الحل الأقرب إلى المنطق، في حالة طرح هذه المشاعر نفسها بقوة ( ).

3) تمزيق الهوية الفرنسية الکندية:

اختفت الآن الهوية الفرنسية الکندية التقليدية وأخذت شکل هوية ممزقة، وساهمت عدة عوامل في تحطيمها ( )، أهمها ما يلي:

‌أ) التهميش الاقتصادي

    کان لانتقال مستعمرة فرنسا الجديدة للسيطرة البريطانية عام 1763 عواقب اقتصادية کبيرة على الکنديين الفرنسيين، أبرزها خلق بنية اقتصادية متخلفة في کيبيک؛ ونتج عن هذا الهيکل إبقاء الکنديين الفرنسيين خلال القرن العشرين ممثلين تمثيلا ناقصا في صفوف البروليتاريا الصناعية والمهن التقليدية"؛ وهکذا اضطرت کيبيک إلى النضال في محاولتها إنشاء اقتصاد نابض بالحياة ونظام تعليمي وثقافة متناميين ( )، وکان مجتمع الناطقين بالفرنسية Québécois ضعيفًا في المجالات الاقتصادية والمجتمعية، فلقد کان هناک عدد قليل جدًا من أصحاب الأعمال الکنديين الفرنسيين، وکان القرار الاقتصادي يُتخذ من قبل النخبة الناطقة بالإنجليزية Anglophone elite، فمن بين أکبر 11 شرکة صناعية، کانت هناک شرکة واحدة فقط مملوکة للکنديين الفرنسيين، أما باقي الشرکات کانت مملوکة للکنديين الإنجليز( ).

کما أن الکثير من الصناعات الکندية الفرنسية المحلية في کيبيک کانت عبارة عن أماکن للأعمال التجارية الصغيرة. قبل الستينيات، کان معظم اقتصاد کيبيک تحت الهيمنة الکندية الإنجليزية، فنجد أن 83٪ من المديرين التنفيذيين والمديرين کانوا من المتحدثين باللغة الإنجليزية، وکان الکنديون الفرنسيون يحصلون على رواتب أقل بنسبة 35٪ مقارنة بمتوسط الرواتب للمتحدثين بالإنجليزية، وکان الکنديون الفرنسيون ثنائيو اللغة bilingual الذين يتحدثون لغتين يحصلون على رواتب أقل بکثير من رواتب الأنجلوفون الناطقين باللغة الإنجليزية unilingual أحادي اللغة، وکان لدى الفرنکوفونيين اعتقادًا مشترکًا فيما يتعلق بالاستعمار من الداخل colonialism from within الذي کان قائمًا على التقسيم الثقافي وخلفيات العمل ( ).

‌ب) التحديث Modernization

قام رئيس وزراء کيبيک "جان ليساج" Jean Lesage بعدة إصلاحات، شکلت بداية الثورة الهادئة في الستينيات، ومست العديد من القطاعات مثل التعليم والرعاية الاجتماعية والطاقة الکهرومائية والتنمية الإقليمية والقطاع الصناعي، کما أسست حکومته کيبيک کمقاطعة حديثة وعلمانية سيطرت على جميع المؤسسات الاجتماعية والصحية والتعليمية، ونجحت في إتاحة آلاف الوظائف للمجتمعات المتعلمة الناطقة بالفرنسية، فقد رکز التحديث modernization على النواحي المؤسساتية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية بشکل مختلف عن الطريقة المحافظة في الماضي، وکان تبرير حرکة کيبيک تاريخيًا عوامل غير وطنية/قومية etnonationalistic factors، بدايةً من المطالبة بتفرد ثقافتها وتعرض غالبية الناطقين بالفرنسية الذين يمثلون 78٪ من سکان المقاطعة للتهديد بالامتصاص assimilation على حد سواء من قبل کل الکنديين والثقافة الناطقة باللغة الإنجليزية بشکل عام ( ).

‌ج) التحضر/التمدن Urbanization

ساعد التمدن بالتأکيد على تدمير معظم البيئات الريفية المتجانسة التي يعيش فيها الناطقون بالفرنسية francophones بالقرب من کنائسهم، وتعد Saint Boniface، التي أصبحت إحدى ضواحي مدينة Winnipeg، والقرى الناطقة بالفرنسية التي تم بناؤها بالقرب من Winnipeg، مثالاً جيدًا على هذه العملية ( ).

‌د) التصنيع Industrialization

أدت عملية التصنيع إلى عمل الناطقين بالفرنسية في البيئات الناطقة بالإنجليزية بشکل کبير، ويتم تعليم الشباب، في أغلب الأحيان، في مؤسسات ثنائية اللغة، خاصةً في المرحلتين الثانوية والجامعية، وتعد وسائل الإعلام والصناعات الثقافية من العوامل القوية التي لا تفرض استخدام اللغة الإنجليزية ولکنها تساعد أيضًا في بناء الخيال الجماعي( ).

4) علمنة المجتمع الکيبيکي وفقدان الکنيسة الکاثوليکية نفوذها:

شهد مجتمع کيبيک في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ظاهرة العلمنة السريعة في کل النواحي، وکأن قرون من الزمان وليس عقود تفصل کيبيک في الثمانينيات عن کيبيک في الخمسينيات من القرن الماضي، ويمکن إجراء ملاحظة مماثلة حول کنيسة کيبيک وتطورها بين عامي 1960 و1980. فقبل عام 1960، سيطرت الکنيسة الکاثوليکية فعليًا على التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية المقدمة إلى سکان کيبيک الفرنسيين الذين کانوا يشکلون غالبية السکان، حتى أن موريس دوبليسيس Maurice Duplessis، خلال السنوات التي قضاها رئيسًا للوزراء (1944-1959)، أعلن أن کيبيک مقاطعة کاثوليکية وعمل بنشاط على تعزيز رفاهية الکنيسة، ومن الجدير بالذکر أن في عام 1958، عرَّف أکثر من خمسة وثمانين في المائة من السکان أنفسهم على أنهم کاثوليک، وکان أکثر من ثمانية وثمانين في المائة من هؤلاء الکاثوليک يحضرون القداس کل يوم أحد، وأشرف جيش افتراضي من الراهبات والکهنة، والذي بلغ عددهم بحلول عام 1962 أکثر من 50 ألف شخص، على بيروقراطية الکنيسة الهائلة، وعلى المدارس والمستشفيات ( )، وتم إضفاء الشرعية على هذا الوضع شبه الثابت والوجود العام من خلال القومية الدينية التقليدية، التي وحدت نسخة دينية محافظة من الکاثوليکية والهوية العرقية الکندية الفرنسية ( ).

وتعني "الثورة الهادئة Quiet Revolution" أن الدولة وليس الکنيسة يجب أن تکون "تجسيدًا للأمة الفرنسية في کندا". في حين يمکن رؤية جذور الثورة الهادئة في النمو الاقتصادي السريع ونمو سلطة الدولة في عشرينيات القرن الماضي، فإن التغييرات التي حدثت في الستينيات کانت بمثابة تحول دراماتيکي، وبحلول عام 1980، تغير الوضع بشکل کبير، إذ استحوذت ولاية کيبيک على عمل الکنيسة في مجالات التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية، کما لم تسع أي مجموعة قومية إلى الترويج لثقافة سياسية کاثوليکية أو إعادة تشکيل اقتصاد کيبيک بما يتوافق مع تعاليم الکنيسة الاجتماعية، وتبخرت سيطرة وقيادة الکنيسة على الحرکات القومية خلال عقدين من الزمن ( ).

من اللافت للنظر أن الکنيسة استجابت لعلمنة Secularization مجتمع کيبيک بهدوء نسبي، فبالتأکيد، اعترض الأساقفة وغيرهم من القادة الدينيين على خطط الحکومة لعلمنة التعليم وعارضت الطوائف الدينية الإصلاحات التي حولت مستشفياتها إلى مؤسسات عامة، ولکن بشکل عام، تجنب مجتمع کيبيک الانقسام الثقافي المأساوي الذي ميز الحرکة نحو الحداثة العلمانية للبلدان الکاثوليکية مثل فرنسا وإيطاليا. وفي کيبيک کان العديد من مؤيدي الإصلاحات أعضاء في الکنيسة. السؤال المهم هو کيف تجنبت کيبيک تاريخ الانقسام الذي شهدته فرنسا وإيطاليا والمکسيک وإسبانيا ودول کاثوليکية أخرى؟ لأنه على الرغم من أن الثورة الهادئة کانت مستوحاة من بعض الشکاوى ضد الدين، وحتى مناهضة رجال الدين، إلا أنه لم يکن هناک رفض واسع النطاق للدين نيابة عن دعاة التحديث، فلم تعد الکنيسة -کمؤسسة- تنظم الحياة اليومية للکنديين الفرنسيين بشکل فعال کما فعلت في الماضي، إذ تولت دولة الرفاهية مسؤولية المدارس والمستشفيات ومؤسسات الرعاية، ومع ذلک، فإن الدور المهم الذي تلعبه الکنيسة الکاثوليکية في بقاء أو الحفاظ على الهوية الکندية الفرنسية في البيئات الناطقة بالإنجليزية لا يزال من الممکن رؤيته في عدد من المجتمعات خارج کيبيک، کما هو الحال في نيو إنجلاند وغرب کندا ( ).

المبحث الثاني

استراتيجيات إقليم کيبيک نحو الاستقلال

کان الکنديون الفرنسيون يشکلون ما يقرب من ثلث سکان کندا عام 1964، وبالنسبة للکثير منهم، کان هناک شعور بالعداء تجاه ما کان يُنظر إليه على أنه ينتمي للمؤسسة الأنجلوسکسونية Anglo-Saxon establishment ( )، وانعکس هذا الشعور في المعارضة الفرنسية الکندية للتجنيد الإجباري، خلال الحربين العالميتين، بعد أن تردد الکثيرون في القتال من أجل الإمبراطورية البريطانية، على الرغم من علاقات التحالف بين البريطانيين والفرنسيين آنذاک ( )، حتى تجلت النزعة الانفصالية بطرق مختلفة، ممثلةً في الحملات السياسية لحزب Parti Québécois PQ والنشاط الإرهابي لجبهة تحرير کيبيک Front de Libération du Québec FLQ ( ).

1- استخدام العنف:

 برزت جبهة تحرير کيبيک Front de Libération du Québec FLQ إلى النور عام 1963، مستخدمةً کافة وسائل العنف والإرهاب والتخريب المنظم، منظمةً المظاهرات والاضطرابات؛ بهدف استهداف جميع المؤسسات الفيدرالية والقوات المسلحة والمؤسسات والاقتصادية التابعة للناطقين بالإنجليزية، مستخدمةً أساليب الاختطاف والاغتيال للساسة الکنديين والدبلوماسيين الأجانب، وأبرز ما قامت به هو الانفجارات التي هزت مدينة مونتريال عام 1969، ومحاولتا اختطاف فاشلتين للمبعوث التجاري الإسرائيلي والقنصل الأمريکي مع بداية عقد السبعينيات ( ).

منذ أوائل الستينيات، استلهم النشطاء السياسيون والمفکرون في کيبيک من تجارب إنهاء الاستعمار في العالم الثالث لتحدي المؤسسة الأنجلو-ساکسونية، باستخدام کل من الأساليب العنيفة والسياسية، وبذلک، ولسخرية القدر، ادعى أحفاد المستعمرين الأوروبيين أنهم يقاتلون جنبًا إلى جنب مع حرکات التحرر الأخرى في جميع أنحاء العالم- وهي نقطة أکدها بيان FLQ الذي أعلن أنهم "يحيون الشعبين الکوبي والجزائري اللذين يقاتلان ببطولة ضد الإمبريالية والاستعمار بجميع أشکاله"، وشوهد نشاط FLQ بوضوح عام 1964، حين هددت بإطلاق النار على الملکة إذا وطأت قدماها أرض کيبيک، ونظر مسؤولو الحکومة البريطانية بجدية في "الموقف الذي قد ينشأ في حالة اغتيال الملکة"، وکانت هذه الزيارة محفوفة بالخطر نتيجة احتمالية تعرض سلامة وحياة الملکة في کيبيک للخطر، وسط مطالبات بإلغائها، ونادرًا ما کانت الملکة تحت حراسة مشددة من قبل، کما حدث في رحلتها إلى کيبيک، وبعد عدة سنوات، اختطفت FLQ الدبلوماسي البريطاني جيمس کروس عام 1970 ( )، وتم إطلاق سراح الدبلوماسي البريطاني بعد موافقة الحکومة على أن يغادر الخاطفون مع أسرهم کندا إلى کوبا ( ).

2- استخدام الأداة السياسية:

‌أ) تبني تشريعات وسياسات تحافظ على الهوية الکيبيکة:

صاغت کيبيک عددًا من السياسات، أبرزها (ميثاق کيبيک لحقوق الإنسان والحريات) Charte québécoise des droits et libertés de la personne، عام 1975 الذي يعترف بحق أعضاء المجتمع الإثني في الحفاظ على حياتهم الثقافية الخاصة ويؤسس الاحترام من أجل الحقوق الفردية والتضامن والديمقراطية القائمة على المساواة بين الرجل والمرأة ( )، ثم تبنت الجمعية الوطنية في کيبيک عام 1977، ما يسمى قانون 101 Bill 101 (ميثاق اللغة الفرنسية) La Charte de la langue française؛ والذي بموجبه أصبحت الفرنسية اللغة الرسمية الوحيدة في کيبيک ( ).

‌ب) تنظيم الاستفتاءات:

استفتاء 1980:

نتيجة عدم رضاها عن الفيدرالية الکندية؛ شرعت حکومة حزب کيبيک، بقيادة رئيس الوزراء رينيه ليفيسک René Lévesque عام 1980 في الدعوة إلى استفتاء من شأنه أن يسمح لأبناء کيبيک بالتصويت على ما إذا کانوا يريدون الانفصال عن کندا أم لا، قائمًا على تحديد شکل العلاقة بين کيبيک والاتحاد الکندي Sovereignty-Association Relationship، وسُئل سکان کيبيک عن منح حکومة کيبيک الإذن بالتفاوض بشأن اتفاقية جديدة مع کندا، من شأنها أن تمنح کيبيک الحق في سن قوانينها الخاصة، وفرض ضرائبها الخاصة، وإقامة علاقات دولية، ولکنها ستحافظ على العلاقات الاقتصادية مع کندا، بما في ذلک عملة مشترکة؛ ومن ثم إجراء استفتاء ثان بعد انتهاء المفاوضات في حالة تصويت الأغلبية على الانفصال ( )، فلقد سعى PQ إلى طمأنة کيبيکرز بأن لديهم فرصة لتأکيد قرارهم بالاستقلال في المرحلة اللاحقة، متبنًا ما يسمى بــــ "النهج التدريجي" (L’étapisme) حيث سعى أولاً إلى الحصول على دعم الشعب الکيبيکي لمناقشة ترتيب "رابطة السيادة" “Sovereignty-Association” مع کندا؛ ومن ثم تنظيم استفتاء آخر للتصديق على أي "ارتباط" تم التفاوض بشأنه ( ).

استخدم حزب PQ حجتين رئيسيتين خلال حملة استفتاء عام 1980، وکلاهما واسع للغاية في طبيعته ومرتکز على تطوير قومية کيبيک التي کانت تدفع بمفاهيم التضامن الفرنسي الکندي جانبًا: کانت الحجة الأولى هي أن دولة کيبيک ذات السيادة يمکنها أن تحرر المجتمع الفرانکوفوني بالکامل، فبالنسبة لـ PQ، کان الاستقلال مشروعًا للأغلبية الفرنکوفونية في المقاطعة، حيث قيل إن الدولة المستقلة يمکن أن تحمي وتعزز مصالحها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية واللغوية بشکل أفضل، وکان المحتوى الثقافي للحملة جوهريًا للغاية، وکانت الفرنسية، بکل أبعادها، مرکزية في النقاش من أجل الاستقلال، وکان المغنون والفنانون والشعراء في طليعة حملة "نعم"، وکانت الحجة العريضة الثانية التي قدمها الحزب هي أن الدولة المستقلة يمکن أن يخلق مجتمع أکثر عدلاً ومساواة حيث تُستخدم الدولة على نطاق واسع لسد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فقد تأسس حزب PQ کحزب ديمقراطي اجتماعي، وخلال سنوات حکومته التي سبقت الاستفتاء (1976-1980)، نفذ العديد من الإجراءات التقدمية، لا سيما في سوق العمل، وکانت النقابات العمالية قريبة منه وداعمة للاستقلال، والتي رأوا أنها وسيلة لتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للناطقين بالفرنسية وخلق بيئة أکثر ملاءمة للعمل، کما جادل PQ بأن استقلال کيبيک سينشأ مجتمعًا جديدًا، مستوحى من الديمقراطيات الاجتماعية في الدول الاسکندنافية ( ).

في 20 مايو 1980 ذهب أکثر من 85٪ من سکان کيبيک إلى صناديق الاقتراع، وهُزم الاقتراح بتصويت 59.6٪ مقابل 40.4٪، وکان سبب تصويت العديد من سکان کيبيک بـ"لا"؛ ليس لأنهم أرادوا أن تظل کندا کما هي، ولکن لأن الحکومة الفيدرالية قد وعدت ببدء "فدرالية متجددة"، والتي فهم الکثيرون أنها اعتراف بوضع خاص لکيبيک داخل کندا، وبعد فترة وجيزة من إجراء الاستفتاء، تمت الموافقة على الدستور الکندي من بريطانيا العظمى، وفي عام 1982، تم التصديق عليه من قبل کل مقاطعة کندية باستثناء کيبيک، التي أرادت أن تمنح الحکومة الفيدرالية المقاطعة وضعًا خاصًا داخل الاتحاد ( ).

استفتاء 1995:

أدى فشل اتفاقية Meech Lake بحيرة ميتش (1987-1990) ثم اتفاقية Charlottetown شارلوت تاون (1992) لتعديل الدستور بمنح کيبيک وضعًا خاصًا إلى تزايد استياء العديد من القوميين في کيبيک من الفيدرالية الکندية، وفي 30 أکتوبر 1995، تمت الدعوة إلى استفتاء ثان في کيبيک، ومع ذلک، لم يحدد السؤال هذه المرة حدود العلاقة بين کيبيک المستقلة والاتحاد الکندي، وبدلاً من ذلک، سُئل الناخبين عما إذا کانوا يريدون أن تصبح کيبيک ذات سيادة بعد أن عرضت کندا رسميًا شراکة اقتصادية وسياسية جديدة ( ).

هدفت اتفاقية بحيرة ميتش Meech Lake لدمج کيبيک في الإطار الدستوري لکندا؛ لأنها المقاطعة الوحيدة التي لم توقع على الوثيقة الدستورية لعام 1982، وقد ضمت اتفاقية بحيرة ميتش تقريبًا جميع مطالب القوميين في کيبيک، کما تضمنت العديد من مطالب المقاطعات الغربية، تتضمن حدود الاختصاص الفيدرالي، وکان الجزء الأکثر أهمية للقوميين في کيبيک هو الاعتراف بکيبيک کمجتمع متميز، وکان لابد من التصديق على الاتفاقية في غضون ثلاث سنوات من قبل البرلمان الفيدرالي وکل المقاطعات. ولکن لأسباب تتعلق في الغالب بالشؤون الداخلية، لم توقع مقاطعتا مانيتوبا Manitoba ونيوفاوندلاند Newfoundland على الاتفاقية؛ وبالتالي فشلت اتفاقية بحيرة ميتش والجهود الجديدة لدمج کيبيک في الإطار الدستوري الکندي؛ ونتيجة لذلک ، ارتفعت الأصوات المطالبة بالتصويت لصالح الاستقلال في کيبيک سريعًا، حتى أن ستيفان ديون Stephan Dion - الوزير الفيدرالي السابق للشؤون الحکومية - عرّف فشل اتفاقية بحيرة الميش على أنه السبب الرئيسي لقوة قومية کيبيک في التسعينيات، ورفض الاتحاد الکندي احتجاج کيبيک، وبناءً على المشکلة الهيکلية للغة والتطورات الاجتماعية والاقتصادية في کيبيک - التي عززت الثقة الوطنية لشعب کيبيک - استخدم الانفصاليون هذا الشعور بالرفض من أجل التعبئة القومية ( ).

کان مستقبل کندا موضع تساؤل في خريف عام 1995، إذ کانت حکومة کيبيک المنتخبة على وشک أن تسأل ناخبي تلک المقاطعة عما إذا کانوا يوافقون على أن تصبح کيبيک دولة مستقلة أم لا، وقد جرى الاستفتاء يوم 30 أکتوبر 1995، بعد اختتام حملة رسمية لمدة 30 يومًا، وخلال ذلک الوقت، شن الجانبان - الانفصاليون و الفيدراليون - حملات لإقناع الناخبين باختيار خيارهم الخاص على خيار الطرف الآخر، إذ دعا أنصار السيادة للتصويت بـ "نعم" أي الموافقة على استقلال کيبيک، بينما دعا الفيدراليون للتصويت بـ"لا"، وجاءت النتيجة النهائية للاستفتاء، برفض سکان کيبيک الاستقلال بهامش ضئيل للغاية، بنسبة 50.6٪ من الأصوات لصالح الجانب الفيدرالي و 49.4٪ لصالح الأصوات المطالبة بالسيادة؛ ومن ثم بقيت کيبيک داخل کندا ( )، ومن الواضح أن کيبيک لم تصل بعد إلى هدفها، فلقد أشار الاستفتاء الثاني عام 1995 إلى أن ما يقرب من نصف سکان کيبيک أرادوا الانفصال عن کندا وتشکيل دولتهم المستقلة ( ).

أجرى حزب Parti Quebecois استفتاءان على الاستقلال في عامي 1980 و1995، کنتيجة لما وعد به الحزب لشعب کيبيک خلال حملته للحصول على مقاعد في انتخابات المقاطعات في عام 1976، وقبل ذلک، لم يتمکن القوميون الکيبيکيون من إجراء استفتاء؛ لأنه نادرا ما کان لديهم مقاعد في المجلس التشريعي الإقليمي، فعلى مدار الخمسين عامًا الماضية، وجهت کيبيک مرارًا وتکرارًا إنذارات نهائية لجميع البلدان: "أعطونا المزيد، أو سنرحل!"، وبعد استفتاءين في کيبيک، وبعد العديد من المؤتمرات والتقارير والنقاش الدستوري الذي سيطر عليه المشهد السياسي الکندي لأکثر من جيل، ظلت کيبيک غير راضية، لکنها لم تنفصل بعد ( ).

3- استدعاء کيبيک للدول الکبرى للتدخل في إدارة الصراع:

سعت کيبيک إلى استجداء الدول الکبرى ذات الصلة، على رأسها فرنسا والولايات المتحدة في معظم الأحيان للتدخل في إدارة الصراع في مراحله المختلفة.

1- موقف الولايات المتحدة:

 قبل عام 1960، کان هناک غياب فعلي لسياسة حکومية تجاه الولايات المتحدة باستثناء فتح تمثيل لکيبيک في نيويورک خلال الحرب العالمية الثانية، ولکن تميزت الفترة (1976-1980) بإدراک الکيبيکيين المتمردين Quebec souverainistes لأهمية انخراط کيبيک مع الولايات المتحدة، واعتبار العلاقات مع الولايات المتحدة ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى کيبيک، وهو ما اتضح في صياغة حکومة حزب کيبيک بقيادة رينيه ليفيسک لاستراتيجية عملية أمريکا Operation amérique ( )، ففي أعقاب انتخاب حزب کيبيک Parti Québécois في 15 نوفمبر 1976، لم يشر الحزب لأي شيء على أنه سيعمل بمجرد انتخابه على تکثيف سياسات کيبيک الدولية تجاه الولايات المتحدة، ففي حين شدد برنامج الحزب على أهمية العلاقات بين کيبيک والولايات المتحدة، دعا الحزب إلى إقامة کيبيک ذات سيادة من شأنها الانسحاب من NATO حلف شمال الأطلسي الناتو، ولن تشارک في NORAD قيادة الدفاع الجوي لأمريکا الشمالية (نوراد)، وستکون رسميًا دولة محايدة، وهو ما أشار إلى فهم ساذج جدًا للعلاقات الدولية من جانب الحزب في سياق الحرب الباردة ( ).

أثناء الحرب الباردة، اتخذت الولايات المتحدة موقفها لصالح کندا الموحدة، فلم تلقى فکرة الاستقلال قبولًا في الولايات المتحدة؛ حيث دفعت الأيديولوجية الاجتماعية الديمقراطية للحرکة الانفصالية البعض إلى افتراض أن استقلال کيبيک سيحولها إلى مقاطعة "کوبا الشمال" ( )، وبعد أن تعهدت حکومة رينيه ليفيسک بإجراء استفتاء في ولايتها الأولى، کان عليها تطوير استراتيجية تجاه قادة الرأي في الولايات المتحدة؛ لطمأنة المستثمرين، وجعلهم يفهمون أن کيبيک المستقلة يمکن أن تکون حليفًا مخلصًا للولايات المتحدة ولن تصبح "کوبا الشمال"؛ ومن ثم أصبح من المهم مراجعة المواقف السياسية الدولية لحزب Parti Québécois والتخلي عن موقفه الحيادي، وتطوير استراتيجية للدبلوماسية العامة تجاه الولايات المتحدة، وقد نجح رينيه ليفسک في تغيير ومراجعة موقف الحزب عام 1979، بأن تبقى کيبيک المستقلة عضوًا في نوراد والناتو، وأخذت الاستراتيجية اسم: عملية أمريکا Opération Amérique؛ بهدف تسليط الضوء على التزام کيبيکرز بسيادة القانون والديمقراطية وخاصة احترامها لالتزاماتها المالية في حالة الانتصار "بنعم"، فقد أرادت حکومة کيبيک أيضًا أن تظل حکومة الولايات المتحدة محايدة نسبيًا قبل وأثناء حملة الاستفتاء عام 1980، وکانت هذه الاستراتيجية مهمة أيضًا لأن قبل صياغتها کانت سياسة کيبيک تجاه الولايات المتحدة لحد کبير مرتجلة ( ).

وکجزء من Opération Amérique، تم افتتاح مقر جديد في أتلانتا في عام 1977، وأنشأت کيبيک مکتبًا للسياحة في واشنطن عام 1978 کان مرتبطًا بوفد کيبيک في نيويورک حتى نهاية التسعينيات، وزادت البعثات الوزارية إلى الولايات المتحدة وسعت حکومة کيبيک عن قصد إلى أن تکون أکثر حضوراً في منتديات النخبة للسياسات الخارجية، وأولت حکومة کيبيک لجارتها الأمريکية اهتمامًا غير عاديًا ، ومن ناحية أخرى، طور الرئيس جيمي کارتر عقيدة أمريکية American doctrine تجاه مسألة کيبيک القومية، تتکون من ثلاثة عناصر، وهي أن الولايات المتحدة لا تنوي التدخل في الشؤون الداخلية لکندا، وبالتالي لا تتخذ موقفا بشأن قضايا دستورية، وهي تفضل الوحدة الکندية، کما ستحترم إرادة الشعب الکندي ( ).

2- فرنسا:

يمکن تتبع علاقة الجمهورية الفرنسية بالمسألة الکيبيکية منذ أن أعلن الرئيس الفرنسي "شارل ديغول"، من شرفة قاعة مجلس مدينة مونتريال في 24 يوليو 1967 شعار حرکة استقلال کيبيک "لتحيا کيبيک الحرة!"" "Vive le Québec libre"؛ وسط هتاف مدوي من قبل حوالي 13.000 شخص تجمعوا للاستماع إلى کلمته؛ وقد أثار "ديجول" أزمة دبلوماسية انتهت بإلغاء زيارته، جراء التدخل الفرنسي في السياسة الداخلية لکندا، وأعطى رئيس الوزراء الکندي، ليستر ب. بيرسون، تحذيرًا لتشارلز ببيان رسمي، قائلاً "شعب کندا أحرار. کل مقاطعة في کندا حرة. الکنديون ليسوا بحاجة إلى التحرير. فقد ضحى آلاف من الکنديين بأرواحهم في الحربين العالميتين في سبيل تحرير فرنسا ودول أوروبية أخرى" ( ).

وعلى عکس الموقف الديجولي السابق؛ اعتمدت فرنسا، منذ عام 1977، سياسة جديدة تُعرف بسياسة "ni-ni"، وهي اختصار لجملة "ni ingérence ni indifference"، والتي تُترجم عادةً على أنها عدم التدخل وعدم اللامبالاة، وقد صاغها "آلان بيرفيت" Alain Peyrefitte، مستشار ديغول السابق ووزير العدل (1977-1981)، وتعکس هذه السياسة حذر فرنسا الشديد بشأن مسألة سيادة کيبيک، وهدفها هو تجنب الصراع مع کل من السياديين في کيبيک والفدراليين الکنديين، بالإشارة إلى أن فرنسا لن تتدخل بعد الآن في النقاش الفيدرالي-الإقليمي الکندي ( ).

وهناک عدة عوامل تفسر هذا التغيير في السياسة الفرنسية تجاه کيبيک ولا سيما أن حکومة کيبيک لم تنظر بشکل إيجابي إلى التدخل الفرنسي، حيث إن أي حکومة تسعى للحصول على دعم أجنبي من شأنها أن تعرض نفسها لاتهامات على غرار التلاعب بشعبها وإشراک جهات خارجية في مسألة داخلية من شأنها أن تتعلق فقط بشعب مقاطعة کيبيک، وعلاوة على ذلک، فإن مثل هذا الإجراء من شأنه أن يحرض خصومهم الفيدراليين على طلب الدعم الأجنبي أيضًا، وهو ما يفسر سبب صياغة سياسة "ni-ni" بناءً على طلب Parti Québécois، إذ خشي دعاة السيادة Sovereignists من أن التدخل الفرنسي قد يکون له رد فعل عنيف في کيبيک؛ يضعف دعم استقلالها بدلاً من تعزيزه، کما أدت الهزيمة الواضحة لخيار السيادة وتراجع احتمالية استقلال کيبيک في أعقاب استفتاء 1980 إلى تغيير النظرة الفرنسية تجاه کيبيک، فلم يکن من مصلحة فرنسا أن تدخل في خلاف مع کندا حول مقاطعة قررت أغلبيتها لصالح البقاء جزءً من الدولة الفيدرالية، ولم يکن فرانسوا ميتران François Mitterrand الذي انتُخب رئيسًا عام 1981، - کأول اشتراکي يتولى رئاسة الجمهورية الخامسة - مؤيدًا لسيادة کيبيک بشکل کبير على خلاف أسلافه، معتبراً ذلک "نزوة" لديغول، بالتزامن مع تحسنت علاقة "ميتران" بشکل کبير مع رئيس الوزراء الکندي بيير إليوت ترودو مقارنةً بالعلاقة التي جمعت ترودو مع الرئيس الفرنسي فاليري جيسکار ديستان ( ).

فلقد تخلت فرنسا تدريجياً عن سياسة "ديجول"، ورغم صياغة فرنسا لهذه السياسة بعناية؛ والتي تهدف إلى تجنب الإساءة لأي من الطرفين، کان نهج "الانتظار والترقب" Wait-and-See approach الذي اتبعته فرنسا خلال استفتاء عام 1995 بشأن مسألة سيادة کيبيک واضحًا، متبنيةً صيغة أن "فرنسا ستکون إلى جانب کيبيک، بغض النظر عن الخيار الذي سيتم اتخاذه ديمقراطيًا"، وکرر الممثلون الفرنسيون ذلک، کتأکيدات جاک شيراک Jacques Chirac عام 1997 إلى لوسيان بوشار Lucien Bouchard التي تتلخص في أنه "يمکن أن تعتمد کيبيک على صداقة فرنسا وتضامنها"، و"أياً کان الطريق الذي تختاره کيبيک، فإن فرنسا سترافقه"، وأقصى ما صرح به مسؤول فرنسي خلال العقود القليلة الماضية کان التصريح الأقل أهمية الذي أدلى به آلان جوبيه Alain Juppé (وزير الخارجية آنذاک) إلى لوسيان بوشار Lucien Bouchard، بحضور السفير الکندي، عن "تعاطفه" مع القضية ( )، وتشير صياغة سياسة "ni-ni" الفرنسية إلى رفضها التدخل في أي نزاع اتحادي إقليمي بين الفيدراليين والمقاطعات Federal–provincial dispute، مع استخدام مصطلحات "عدم اللامبالاة" للحفاظ على شکل دعم خاص لکيبيک، فمثلاً، وافقت باريس عام 1997 على طلب أوتاوا بعدم إصدار طابع احتفال بالذکرى الثلاثين لخطاب ديغول في مونتريال، منهيةً بذلک معرکة استمرت شهورًا أطلقت عليها الصحافة اسم "حرب الطوابع" ( ).

بلا شک، تمثل حرکة انفصال کيبيک عن کندا تهديدًا عظيمًا لوحدة الأراضي الکندية، في ظل وجود انقسام يعصف بکيان الدولة الکندية ويهدد استقرارها، ولاسيما مع وجود الجناح الانفصالي الذي استخدم کافة أشکال العنف کما سبق الإشارة، ويمکن ملاحظة أنه قد تنشأ حرکات عرقية انفصالية يغلب عليها طابع العنف حتى في ظل المجتمعات الديمقراطية ( ).

المبحث الثالث

آليات إدارة الصراع في إقليم کيبک

1- احتواء کيبيک والاعتراف بتميزها:

کانت هناک بعض المحاولات الأولية الجادة من قبل القادة السياسيين والمفکرين لتلبية المطالب الجديدة لکيبيک، والتعامل مع هذه القضايا، فخلال الستينيات من القرن العشرين، أيدت الأحزاب الفيدرالية الثلاثة فکرة أن کندا تتکون من شعبين أو أمتين مؤسستين ( )، وأنشأت الحکومة الفيدرالية الليبرالية بقيادة "ليستر ب. بيرسون" Lester B. Pearson عام 1963 لجنة ملکية بشأن ثنائية اللغة وثنائية الثقافة، Royal Commission on Bilingualism and Biculturalism؛ بغرض دراسة أزمة الوحدة الوطنية في کندا. ( ) ولقد تضمنت ولايتها التوصية بالخطوات التي يجب اتخاذها لتطوير الاتحاد الکندي على أساس شراکة متساوية بين العرقين المؤسسين، مع مراعاة مساهمة المجموعات العرقية الأخرى في الإثراء الثقافي لکندا"، رغم اعتراض المحافظين على فکرة "دولتين" ( ).

ربما يرجع تاريخ نهاية فکرة کندا الفرنسية إلى عام 1967، وهو تاريخ مهم في التاريخ الدستوري الکندي، إذ وقعت العديد من الأحداث التاريخية الأخرى في ذلک العام، بما في ذلک نشر المجلد الأول من تقرير Laurendeau-Dunton، والمؤتمر الدستوري الأول لرؤساء وزراء المقاطعات، وظهور بيير إليوت ترودو Pierre Elliott Trudeau ونشر کتابه عن الفيدرالية، وزيارة الرئيس ديغول وخطابه الشهير الذي لفت انتباه العالم إلى حرکة الحکم الذاتي في کيبيک. ( ) واعتمد مؤتمر للمفکرين في ميزون مونتمورنسي Maison Montmorency في کيبيک عام 1967 الموقف القائل بأن کندا مکونة من "deux nations"، والتي تُرجمت إلى "two founding peoples" بالإنجليزية، والتي تعني "شعبين مؤسسين"، وسبق للحزب الديمقراطي الجديد New Democratic Party أن تناول هذه القضية في مؤتمره التأسيسي عام 1961، وبناءً على طلب من مندوبي کيبيک، وافق الحزب على أن وجوب أن يتضمن برنامجه ما يوضح أن کندا قد تم إنشاؤها من قبل اتحاد دولتين association of two nations، ويجب استخدام مصطلح "فيدرالي" بدلاً من "وطني" في جميع أنحاء الوثيقة. وفيما يتعلق بوضع کيبيک نفسها، خلال أوائل الستينيات، اعترف رئيس الوزراء بيرسون علنًا بتميز کيبيک بعبارات کقوله: "في حين أن کيبيک هي مقاطعة في الاتحاد الوطني، فهي أکثر من مقاطعة لأنها قلب الشعب: بالمعنى الحقيقي للکلمة هي أمة داخل أمة" ( ).

علاوة على ذلک، خلال هذه الفترة، سمحت حکومة بيرسون لمقاطعة کيبيک بممارسة وضع خاص بحکم الواقع de facto particular status، من خلال اختيار عدم المشارکة في أو عن طريق الانسحاب من عدد کبير من البرامج المشترکة بين الحکومة الفيدرالية والمقاطعة، وحتى البرامج الفيدرالية الحصرية، ومن خلال التزامه بتدخل الدولة، أدرک الحزب الديمقراطي الجديد أن الحکومة الفيدرالية لا يمکن أن تقوم بدورها المناسب ما لم يتم استبعاد کيبيک من مبادراتها، وأعلن الحزب الديمقراطي الجديد موقفه، الذي صاغه تشارلز تايلور Charles Taylor، أن: في مجالات الحکومة التي تمس أسلوب حياة المجتمع - مثل الضمان الاجتماعي وتخطيط المدن والتعليم وتنمية المجتمع- يجب أن تتمتع کيبيک بالحق والموارد المالية لاعتماد برامجها وسياساتها الخاصة بدلاً من تلک التي تم تصميمها وتمويلها من قبل الحکومة الاتحادية، وفي الوقت نفسه، يجب أن تکون الحکومة الفيدرالية قادرة على لعب دور متزايد في هذه المجالات حيث يرغب سکان المقاطعات الأخرى في ذلک ( ).

رفض بعض المؤرخين الکنديين من أصل إنجليزي تفسير الکونفدرالية على أنها ميثاق بين شعبين مؤسسين، على الرغم من قبوله من قبل الآخرين منهم، وتم الاعتراف به صراحة في البرنامج الانتخابي لحزب المحافظين لعام 1968 تحت قيادة روبرت ستانفيلد Robert Stanfield وتقرير اللجنة الملکية حول ثنائية اللغة Bilingualism وثنائية الثقافة Biculturalism (تقرير لوريندو دونتون) (the Laurendeau Dunton Report)، کما أشارت لجنة Laurendeau-Dunton صراحةً إلى فکرة "شراکة متساوية بين العرقين المؤسسين، مع مراعاة مساهمة المجموعات العرقية الأخرى في الإثراء الثقافي لکندا ..."، والنقطة هنا أن کندا الفرنسية آمنت بأطروحة الاتحاد، وکان التمسک بهذا الاعتقاد وسيلة ملموسة لتمييز هويتها الکندية والإشارة إلى أنها تنتمي إلى کندا ککيان جماعي ومجتمع وطني يشير إلى رمزية مشترکة، وفي بعض النواحي، عاش الشعبان المؤسسان في عوالم اجتماعية وأکوان رمزية منفصلة، وباستخدام الفئات التحليلية التي کانت شائعة في الستينيات، ارتبط الکنديون الفرنسيون بالکنديين الإنجليز کعلاقة الشعب المُستَعمر بالمُستعمِرين Colonized to colonizers، محاولين انتزاع أنفسهم من حالة الدونية الاقتصادية والتبعية الاستعمارية ( ).

کثيرًا ما تحدث رئيس الوزراء بيير ترودو Pierre Trudeau عن أمة شاملة قائمة على دستور کندي حقيقي، التي يعيش على أرضها الرجال والنساء من أصول فرنسية وبريطانية، ومن ثقافات العالم المتنوعة، ويرغبون في المشارکة بسلام واحترام متبادل، على حد تعبيره في عام 1982، وکانت هذه الرؤية واضحة منذ أواخر الستينيات، کما تصور ترودو أن الدستور الکندي الحقيقي، بما في ذلک ميثاق الحقوق، من شأنه أن يساعد على إخماد قوة متزايدة من أشکال الانفصال في کيبيک ( ).

2- استراتيجية بناء هوية قومية کندية جديدة مضادة للهوية الکيبييکة:

بحلول أواخر الستينيات من القرن الماضي، استُبدلت الجهود القائمة على "المواجهة المباشرة لقومية کيبيک الجديدة" باستراتيجية جديدة قائمة على "إنکار قومية کيبيک الصريحة، والسعي لتقويض قواعدها الأساسية"، وذلک بتحدي هوية کيبيک بهوية کندية جديدة، قائمة على ما لا يقل عن خمسة مکونات منفصلة، وبتتبع کل عنصر منهم نجد أنها هدفت بشکل مباشر إلى تحقيق الهدف الأساسي المتمثل في هزيمة حرکة استقلال کيبيک، وکان المهندس الأساسي لهذه الاستراتيجية الجديدة هو "بيير إليوت ترودو" Pierre Elliott Trudeau، الذي أصبح رئيسًا للوزراء عام 1968 ( )، وتتمثل عناصر الاستراتيجية فيما يلي:

‌أ) ثنائية اللغة الرسمية Official Bilingualism

من خلال ثنائية اللغة، سعت حکومة ترودو إلى ترسيخ الادعاء القائل بأن اللغة الفرنسية والمتحدثين بالفرنسية حاضرين في جميع أنحاء کندا، ولکن من الناحية الديموغرافية، من الواضح أن هذا ليس هو الحال، ولم يکن کذلک أبدًاـ إذ يختلف استخدام اللغة الفرنسية دائمًا بشکل کبير من مقاطعة إلى أخرى، وتتحدث الأغلبية في کيبيک الفرنسية بنسبة 82٪؛ أما نيو برونزويک New Brunswik، ثاني أکبر نسبة فرنکوفونية، تتحدثها بنسبة 31٪ فقط، علاوة على ذلک، کانت نسبة استيعاب المهاجرين في جميع المقاطعات باستثناء کيبيک ونيو برونزويک مرتفعة للغاية، نتيجة لذلک، أصبحت نسبة السکان الذين يتحدثون اللغة الفرنسية في المنزل في معظم المقاطعات الآن أقل من 3٪، ومع ذلک، فإن ثنائية اللغة الرسمية أعطت الفرنسية نفس الوضع الرسمي کاللغة الإنجليزية في جميع أنحاء البلاد، على الأقل للأغراض الفيدرالية، مهما کانت هامشية في الحياة اليومية ( ).

على هذا الأساس، قصدت ثنائية اللغة الرسمية إبطال مطالبة کيبيک بالتميز على أساس اللغة، بجعل کل أنحاء کندا مثل کيبيک، ما يعني أن کندا ککل، وليس کيبيک فقط، ستکون موطن الناطقين بالفرنسية. کما أعلن بيير ترودو Pierre Trudeau عام 1968، إذا کانت حقوق الأقليات مترسخة في جميع أنحاء کندا، فإن الأمة الفرنسية الکندية لن تقتصر على کيبيک فقط، ولن تستطيع کيبيک أن تقول إنها وحدها تتحدث باسم الکنديين الفرنسيين ... سيتحدث الکل نيابةَ عن الکنديين الفرنسيين في مختلف أنحاء کندا وليس کيبيک فقط، فلن يستطيع أحد على حول قول "ترودو" أن يقول: "أنا بحاجة إلى مزيد من القوة لأنني أتحدث باسم الأمة الفرنسية الکندية" ( )، وفي محاولة لتخفيف حدة التوتر بين الشعبين من أصل فرنسي وبريطاني، تم قبول الفرنسية کلغة رسمية ثانية لکندا بعد الإنجليزية عام 1969 ( )

‌ب) ميثاق الحقوق والحريات

تجسد مفهوم الدولة الجديدة القائم على احترام القيم الليبرالية مثل الحرية والتسامح والأمن في الإصلاح الدستوري الذي تمثلت مرحلته الأخيرة في سن ميثاق الحقوق والحريات Charte Canadienne des droits et libertės عام 1982 ( )، إذ کان تعزيز مکانة الفرنسيين هو الهدف المرکزي للعنصر الثاني من هوية حکومة ترودو الکندية المضادة لکيبيک، من خلال وثيقة حقوقية راسخة التي تم دمجها کجزء من مراجعة الدستور لعام 1982. يتعامل ميثاق الحقوق والحريات مع العديد من الحقوق الأخرى غير الحقوق اللغوية: وهي الحقوق السياسية، والقانونية، والتنقلية، والاجتماعية ، إلخ ... ولکن من الواضح أن الحقوق اللغوية کانت سبب وجودها، کالنص الخاص بحقوق تعليم لغة الأقليات ( )، وبعد أن انتهى العمل بقانون أمريکا الشمالية البريطاني، سن البرلمان البريطاني في مکانه القانون الأساسي لکندا، الذي أعطى کل السلطات التشريعية للبرلمان الکندي، ولکن کان هذا غير مواتٍ لکيبيک وتطلعاتها إلى الاستقلال، فقد قوض الدستور الجديد الدور السابق للناطقين بالفرنسية داخل الدولة الکندية، وفي الواقع اصطفهم شأنهم شأن مجموعات عرقية / لغوية أخرى دون أي تميز ( )، وفقدت کيبيک أيضًا حق النقض الذي کانت تتمتع به سابقًا على التعديلات الدستورية ( ).

‌ج) التعددية الثقافية Multiculturalism

تعد التعددية الثقافية هي العنصر الثالث للهوية الکندية، والتي أعلنتها حکومة ترودو عام 1971 ( )، فقد تغيرت فکرة الدولة الکندية، في وقت حکومة ترودو في أوائل السبعينيات، بتبني مبدأ المساواة لجميع ثقافات المهاجرين، وذلک بالترويج لـ "التعددية الثقافية" رسميًا، حيث يوجد قاسم مشترک بين مجموعة من المجتمعات الوطنية، وهو احترام القيم الليبرالية مثل الحرية والتسامح والأمن ( )، فقد يکون لدى کندا لغتان رسميتان، ولکن من المفترض أن يکون لها عدد لا حصر له من الثقافات، وألزمت الحکومة الفيدرالية نفسها بدعم کل الثقافات في کندا، ففي السابق، ربطت الکثير من النقاشات العامة بين ثنائية اللغة وثنائية الثقافة ( )، وغالبًا ما کان يُنظر إلى تبني حکومة ترودو لسياسة التعددية الثقافية على أنه مجرد استجابة لمطالب الکنديين الذين لم تکن أصولهم بريطانية أو فرنسية، بعد أن قام العديد من قادتهم بحملات ضد مفهوم الثقافة الثنائية Biculturalism، بزعم أنه يستبعدهم کونهم أحد مکونات المجتمع، ومطالبين بمصطلح أکثر شمولاً، ولکن کان لدى حکومة ترودو هدفًا إضافيًا في رفض الثنائية الثقافية لصالح تبني التعددية الثقافية، فعن طريق الاعتراف بوجود العديد من الثقافات، يمکن للتعددية الثقافية کبح جماح فکرة الازدواجية وإبطال مطالبة کيبيک بالتميز على أساس الثقافة ( )، وفي رأي العديد من الانفصاليين، فإن الدولة متعددة الثقافات هي دولة لا يتم فيها الکشف بشکل کافٍ عن الثقافة الفرنسية في کيبيک، بغض النظر عن ثنائية اللغة وغيرها من التدابير الوقائية ( ).

‌د) المساواة المطلقة بين المقاطعات/الأقاليم

کان التزام حکومة ترودو الصارم بمبدأ المساواة المطلقة بين المقاطعات/الأقاليم متجذرًا بوضوح في تصميمها على مواجهة مزاعم القوميين في کيبيک، بالتأکيد على أن الفيدرالية لا يمکن أن تنجح ما لم تکن جميع المقاطعات في الأساس في نفس العلاقة مع الحکومة المرکزية، حتى أن "ترودو" نفسه زعم -على حد قوله- أن "وضع کيبيک الخاص هو أکبر خدعة فکرية تم فرضها على شعب کيبيک وشعب کندا" ( ).

‌ه) تعزيز المؤسسات الوطنية

أخيرًا، اقترن الإصرار على وجود فيدرالية موحدة بتصميم أن تلعب الحکومة الفيدرالية دورًا هامًا في حياة جميع الکنديين، بما في ذلک الکيبيکيين، سواء کان ذلک من خلال برامج مدفوعات التحويل المباشر، مثل مخصصات الأسرة، أو المشاريع الوطنية الکبرى، مثل برنامج الطاقة الوطني( )، وبعد ذلک، مُنحت کيبيک، کجزء من الاتحاد الکندي، الحق في وضع سياسة هجرة تکون مستقلة عن السلطات الفيدرالية ( ).

في مايو 2021، قال زعيم الحزب الليبرالي الحاکم رئيس الوزراء الکندي جاستن ترودو، إنه لن يعارض إرادة حکومة "فرانسوا لوجو" في کيبيک في تضمين الدستور الکندي إن "کيبيک تشکل أمة"، وأن "الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة في کيبيک واللغة المشترکة للأمة الکيبيکية"، ويقر ترودو بهذا التصريح، بأنه يحق لکيبيک تعديل جزء من الدستور الکندي بشکل أحادي، لتأکيد ملاحظات قُدمت على مستوى الحکومة الفيدرالية، کما وعد أن الحکومة الکندية ستتحقق من احترام الحمايات المنصوص عليها بأماکن أُخرى من الدستور، بشکل خاص للناطقين بالإنجليزية في کيبيک ( ).

3- السماح بصعود الدبلوماسية الکيبيکية الموازية:

تتمتع کيبيک باستقلالية کبيرة في توقيع الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والثقافية مع الجهات الأجنبية، ويرجع ذلک حين جادلت حکومات کيبيک بفکرة أن السلطات المحلية يجب أن تمتد إلى الساحة الدولية، بما في ذلک إبرام المعاهدة ( )، فلقد استطاع نائب رئيس الوزراء وزير التعليم في کيبيک بول جيران لاجوي Paul Gérin-Lajoie في خطاب ألقاه عام 1965 أن يوظف الحجج القومية في تأسيس الأساس الفکري المؤسسي لمشارکة کيبيک في المجتمع الدولي، وهو ما يُعرف منذ ذلک الحين باسم عقيدة جيرين لاجوي، والتي لا تزال تعمل حتى اليوم کنموذج استرشادي يحرک السياسات الخارجية الرسمية لکيبيک، فمن وجهة نظره، لم تُمثل کيبيک بشکل کافٍ في الساحة الدولية من قبل الحکومة الفيدرالية والخارجية الکندية، کما تجاهلت أوتاوا المجتمع الناطق بالفرنسية بشکل حاد باستمرار؛ وبناءً على ذلک أشار "بول جيرين لاجوي" أن من الضروري لکيبيک تکوين علاقات أوثق مع البلدان الفرانکفونية بشأن مجموعة من القضايا السياسية الهامة ( )، وشکَلت عقيدة جيرين- لاجوي الأساس للمطالب السياسية للعب کيبيک لدور دولي متزايد ( )، إذ تؤکد على حق کيبيک في تمثيل نفسها عندما يتعلق الأمر بمجالات اختصاصها، کما أجبرت الحکومة الفيدرالية على استشارة المقاطعات عندما تؤثر المعاهدات الدولية على مجالات وسلطات اختصاصها. السلطة لأنه، إذا لم يکن الأمر کذلک، فإنها معرضة لخطر التنديد بها ( ).

تتلخص حجة تطوير وجود الدبلوماسية الموازية لکيبيک في عدم استطاعة الحکومة الکندية التعبير عن هوية کيبيک، أو تمثيل مصالحها الخاصة، بشکل کافٍ دوليًا، ومن ثم يجسد النشاط الدولي لحکومة کيبيک الإرادة الجماعية لشعب کيبيک، ويعمل کأداة لتعزيز مصالحها والتعبير عن هويتها ( )، فقد تتضمن الدبلوماسية الموازية اعتبارات سياسية، تميل إلى إبراز التعبير على المستوى الدولي عن هوية متمايزة عن تلک التي تطرحها الحکومة المرکزية، کما هو الحال في کيبيک، ولدى حکومة کيبيک شراکات مماثلة مع دول مثل رواندا وتوغو والسنغال والصومال ولبنان وفيتنام وکمبوديا، وتأخذ هذه العلاقات نوعًا من "التعاون اللامرکزي"، على شکل المساعدة الإنمائية والتبادل الثقافي والتعليمي، فضلاً عن التعاون العلمي والتقني ( )، وتجدر الإشارة أن اختيار الشرکاء غالبًا ما يتبع الروابط الثقافية واللغوية، کما هو الحال مع جهود التعاون في کيبيک التي ترکز على الأقاليم الناطقة بالفرنسية ( ).

لقد قبلت کندا بشکل کبير أنشطة الدبلوماسية الموازية لإقليم کيبيک Quebec Para Diplomacy لدرجة أنها لا تتحدى أو تعارض معظم الجهود الدولية التي تبذلها المقاطعة، والتي تعد جهودًا معتبرة، فلقد وقعت کيبيک عدة مئات من الاتفاقيات الدولية منذ عام 1964 مع شرکاء، سواء من الدول أو حکومات الأقاليم، في کل القارات، وتغطي هذه الاتفاقيات تقريبًا جميع المجالات التي تنخرط فيها حکومة کيبيک محليًا، أبرزها: مجالات الزراعة، والتنمية الاقتصادية، والثقافة، والخدمات الاجتماعية، والنقل، وما إلى ذلک، کما تتمتع المقاطعة بتمثيل دولي في أکثر من 25 دولة؛ تضم سبعة وفود عامة في بروکسل ولندن وباريس والمکسيک وميونيخ ونيويورک وطوکيو، وأربعة وفود في بوسطن وبوينس آيريس وشيکاغو وأتلانتا ولوس أنجلوس، فضلاً عن أکثر من عشر وحدات أصغر، بما في ذلک مکاتب الهجرة والسياحة. في صيف عام 2006، أعلنت کيبيک عن فتح مکاتب في الهند والبرازيل، وتعزيز وجودها في اليابان والصين ورفع مستوى مکتبها السياحي في واشنطن العاصمة من خلال منحه دورًا سياسيًا أکبر( ).

وبشکل عام، تمتلک کيبيک أکثر من 250 منصبًا وظيفيًا في الخارج، کما عملت الحکومة الکندية على جعل المنظمة الدولية الفرانکوفونية La Francophonie تقبل بحکومات الأقاليم الفرعية کأعضاء کاملي العضوية حتى تتمکن کيبيک ونيو برونزويک من المشارکة، وفي عام 2005، توصل رئيس الوزراء ستيفن هاربر إلى اتفاق انتخابي يحدد دور کيبيک فيما يتعلق بأنشطة اليونسکو، وذلک بعد أن قررت الحکومة الکندية أن منح کيبيک بعض الحرية في إدارة الشؤون الدولية هو الخيار الأفضل، حين يتعلق الأمر بتأمين التزام سکان کيبيک تجاه کندا. وبعبارة أخرى، تشير فکرة التحدي بشکل مستمر لأنشطة الدبلوماسية الموازية لکيبيک إلى مستوى من الصراع يمکن أن يضر بالوحدة الوطنية الکندية، وهو ما يعني رفض الحکومة الکندية فکرة التحدي، معززةً بذلک موقف حکومة کيبيک القائم على أن سلطات المقاطعة المحددة دستوريًا، على غرار بلجيکا، تمتد إلى الشئون الدولية، ولکن في الوقت ذاته تحرص الحکومة الکندية على تقييد العلاقات الرسمية التي قد تقيمها حکومة کيبيک مع رؤساء الدول أو الحکومات، وهذا هو الحال بشکل خاص عندما يکون حزب الکيبيک PQ في السلطة؛ لأن الحکومة الفيدرالية آنذاک ستشک في أن هذا الحزب صاحب التوجهات الانفصالية سيسعى للحصول على دعم دولي لإعلان الاستقلال في نهاية المطاف، ولا سيما عندما يرتبط الأمر بعلاقة الکيبيک مع فرنسا ( ).

 ولقد نظمت ست سياسات مهمة العلاقة الجديدة بين کيبيک والعالم بشکل جماعي: افتتاح Maison du Québec، وهي سفيرة صغيرة في باريس؛ وإبرام أول وفاق دولي أو اتفاق دولي بشأن التعليم مع فرنسا؛ وصياغة عقيدة جيرين- لاجوي Gérin-Lajoie Doctrine، وهي الأساس القانوني للعمل الدولي لکيبيک؛ وإنشاء مکتب مراسم في عام 1966 تبعه إنشاء وزارة جديدة للشؤون الحکومية الدولية في عام 1968، ومشارکة حکومة کيبيک في مؤتمر دولي لوزراء التعليم للبلدان الفرانکفونية، والذي توجت تقاريره بإنشاء المنظمة الدولية للفرنکوفونية في الثمانينيات، إذ أعطت هذه السوابق کيبيک شخصية فريدة دوليًا في ذلک الوقت ( ).

- العلاقات مع الولايات المتحدة:

کانت العلاقة تاريخيًا بين کيبيک والولايات المتحدة الأمريکية دائمًا صعبة أو غير موجودة ( )، إذ يقول جون سياسيا John Ciaccia وزير الشؤون الدولية (1989-1994) في عهد حکومة روبرت بوراسا Robert Bourassa: "إذا أرادت کيبيک الذهاب إلى واشنطن، فعليها أن تذهب إلى هناک مع الحکومة الکندية". وفقًا لـ Louis Balthazar و Alfred O. Hero "لا توجد علاقات سياسية بحتة بين کيبيک والولايات المتحدة لسبب أن واشنطن لم ترغب أبدًا في معاملة کيبيک على أنها لاعب سياسي مستقل، فبالنسبة للولايات المتحدة، لا يوجد طرف آخر بکندا سوى الحکومة الفيدرالية"؛ ومن ثم، فإن العلاقات بين کيبيک والولايات المتحدة لم تسلک نفس مسار العلاقات بين فرنسا وکيبيک، ولکن يمکن تقسيم العلاقة بينها خمس فترات، تمثل عدة خطوات تقدمية نحو إضفاء الطابع المؤسسي Institutionalization على هذه العلاقات، وکان يوجد، بالطبع، علاقات استثنائية، فمثلاً، التقى رينيه ليفيسک René Lévesque لفترة وجيزة مع رونالد ريغان Ronald Reagan في قمة کيبيک عام 1985، وتحدث لوسيان بوشار Lucien Bouchard لبضع دقائق مع الرئيس بيل کلينتون Bill Clinton في المؤتمر الدولي حول الفيدرالية الذي عقد في مونت تريمبلانت Mont-Tremblant عام 1999، کما التقى جان شارست Jean Charest بعد فترة وجيزة جدًا من انتخابه عام 2003 وجهاً لوجه مع وزير الخارجية کولن باول Colin Powell، کما التقى شارست أيضًا، خلال زيارة إلى واشنطن وفرجينيا عام 2005، بثلاثة أعضاء من ذوي النفوذ في إدارة بوش، وزير الأمن الداخلي مايکل شيرتوف Michael Chertoff، ووزير التجارة کارلوس جوتيريز Carlos Gutierrez، ووزير الطاقة صمويل بودمان Samuel W. Bodman ( )

وفي حقبة ما بعد الحرب الباردة، التي تميزت بتحرير التجارة، لم تکن هناک إشارة إلى "کوبا الشمالية" من الحکومة الأمريکية ( )، وحتى نهاية التسعينيات، شهدت العلاقات الکيبيکية الأمريکية تأييد التجارة الحرة Pro-Free Trade Position في کيبيک، وأخيرًا تتميز الفترة الحالية، التي تمتد من أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى يومنا هذا، بأهمية القضايا الجديدة مثل الأمن في فترة ما بعد 11 سبتمبر 2001، فضلاً عن العلاقات المتعلقة بالطاقة والبيئة ( )، وإذا کانت العلاقة بين فرنسا وکيبيک من الناحية التاريخية، هي التي عززت تطور السياسات الدولية لحکومات کيبيک، فلقد أصبحت الولايات المتحدة تدريجياً مجال اهتمام رئيسي لکيبيک منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لدرجة أن الميزانيات السنوية المخصصة للعلاقات بين کيبيک والولايات المتحدة من قبل وزارة العلاقات الدولية والفرانکوفونية MRIF تفوق تلک المخصصة للعلاقات بين فرنسا وکيبيک، وفي عام 2016، قامت کيبيک بتشغيل وفود ومکاتب في ستة مدن أمريکية نيويورک ولوس أنجلوس وبوسطن وواشنطن وشيکاغو وأتلانتا ( ).

- العلاقات مع فرنسا:

 تعتبر رئاسة نيکولا سارکوزي (2007-2012) استثناء لسياسة عدم التدخل حيال قضية کيبيک، فبعد فترة وجيزة من انتخابه، أعلن سارکوزي عدم إعجابه بصيغة "ni-ni" "السلبية المزدوجة" وتفضيله لسياسة "plus-plus"، التي يمکن ترجمتها على أنها سياسة "المزيد من کندا - المزيد من کيبيک" more Canada–more Quebec، والتي ستکون أکثر إيجابية تجاه کل من کندا وکيبيک، وتم تفسير ذلک على الفور على أنه رفض لدعم قضية استقلال کيبيک، وهو ما فسره السياديون بأنهم فقدوا حليفًا مهمًا في معرکتهم من أجل الاستقلال، ولم يخفوا خيبة أملهم وغضبهم مما اعتبروه تغييرًا في سياسة فرنسا تجاه کيبيک، فعلى سبيل المثال، رأى جان فرانسوا ليزيه (الذي سيصبح وزيرًا للعلاقات الدولية في حکومة حزب "بولين ماروا" عام 2012 من Parti Québécois) أن سارکوزي قد استبدل شعار ديغول "Vive le Québec libre" بشعار "لا لتقسيم کندا"؛ ومن ثم، کسر تقليد عمره أربعين عاما، فلم يرغب الرؤساء الفرنسيين بعد "ديجول" في التأکيد علنًا على تفضيلهم بشأن قضية کيبيک، بل بنوا جدارًا للحماية متمثل في إعلان "عدم التدخل"، ومع ذلک، أشار إضافة تعبير ملطف من "عدم اللامبالاة" إلى تقاربهم السياسي مع مسار کيبيک ( ).

وهکذا، شعر السياديون بارتياح ملموس عندما کان انتخاب "فرانسوا هولاند" عام 2012 يعني العودة إلى سياسة "Ni-Ni"، لکن لم تکن سياسة سارکوزي في تناقض تام مع نهج "الانتظار والترقب" بشأن قضية کيبيک، الذي تبناه أسلافه لأکثر من ثلاثين عامًا، في حين أن سياسة "Ni-Ni" في نهاية السبعينيات هي التي شکلت التغيير الحقيقي عن نهج ديغول، ورغم تناقض لهجة تصريحات سارکوزي، ولا سيما مدحه للوحدة الوطنية الکندية، مع تلک التي صدرت عن أسلافه بحلول أوائل السبعينيات، أصبح عدم التدخل هو الخيار السياسي الفرنسي الوحيد القابل للتطبيق ( )، وواقعيًا، حافظ العديد من الرؤساء الفرنسيين على علاقات مباشرة ومتميزة مع رؤساء وزراء کيبيک ( ).

قام الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بزيارة تاريخية في 3 نوفمبر 2014 إلى مقاطعة/بلدية مونتريال الفرانکفونية في إقليم "کيبيک"، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس فرنسي بعد 47 عاما على زيارة "شارل ديغول" عام 1967؛ ليکون أول رئيس فرنسي يعود إلى الموقع الذي أطلق فيه شارل ديغول إعلانه الشهير؛ مثيرا فتورا بين فرنسا وکندا، وکان في استقباله رئيس بلدية مونتريال "دوني کودير"، الذي کان قد قال قبل أسابيع من الزيارة ممازحا أنه لن يکون بوسع هولاند أن يطل عن الشرفة الشهيرة بسبب أشغال تجري لإصلاحها، ورغم هذه الزيارة التاريخية، بقي هولاند حوالي ثلث ساعة في البلدية - التي کانت المحطة الأخيرة من زيارته الرسمية لکندا التي استمرت ثلاثة أيام، متضمنةً عدة محطات في کندا کأوتاوا وکيبيک ومونتريال-، کما لم يخرج إلى شرفة المبنى المطل على ساحة کاريتيه ( ).

المبحث الرابع

السيناريوهات المستقبلية المحتملة للصراع الاثني في کيبک

 من الملاحظ أنه تم احتواء الصراع بين الکنديين الفرنسيين والکنديين الانجليز، وتم العزوف بشکل شبه نهائي عن فکرة انفصال کيبيک عن کندا؛ وذلک بناءً على قرارات المحکمة الدستورية العليا التي اتخذت منذ البداية موقف واضح وصريح بعدم دستورية فصل مقاطعة کيبيک عن کندا، بجانب استراتيجيات الحکومة الکندية ورؤساء الوزراء وسياستهم لاحتواء الصراع بين الکنديين الفرنسيين والکنديين الانجليز ومحاولة ارضاء الکيبيکيين باعطائهم صفة تميزية في بعض الشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وکذلک تدابير حکومة کيبيک في الآونة الأخيرة خاصة بعد إحداث تغييرات في سياسات الحکومة الکندية المتبعة؛ مما ساعد على الحفاظ على وحدة الدولة الکندية و حماية هويتها الوطنية؛ لذلک يمکن القول إن العزوف عن فکرة الانفصال حدثت من جهة بسبب الاجبار من جانب الحکومة الکندية وحکم المحکمة الدستورية، ومن جهة أخرى، بسبب الرضا من جانب الحکومة الکيبيکية والکنديين الفرنسيين الذين نالوا العديد من مطالبهم وشعروا بشئ من الامتياز عن الکنديين الإنجليز. وفي هذا السياق نتناول المآلات المتوقعة للصراع الاثني في إقليم کيبک بکندا.

ومن الصعب التنبؤ بشکل قاطع لما سيحدث لمستقبل کيبيک، حيث أن الوضع معقد ويعتمد إلى حد کبير على الظروف وعلى الکيانات والشخصيات المشارکة في تلک المرحلة سواء على الجانب الکندي أو کيبيک أو الجانب الدولي، فبالرغم من عزوف الکيبيکيين عن فکرة الانفصال عن کندا بعد التطورات التي لاحقت فشل استفتاء 1980 واستفتاء 1995، إلا أن التحديات التي تواجه الدولة الکندية تزداد في الآونة الأخيرة؛ لذلک من المتوقع وجود العديد من السيناريوهات المستقبلية حول الصراع بين الکنديين الفرنسيين والکنديين الإنجليز، ومن ضمن تلک السيناريوهات:

- السيناريو الأول: زيادة الصراع تعقيدًا:

يظل سيناريو استقلال کيبيک في المستقبل مطروحًا، وأن يتبعهم مقاطعات الغرب الکندي؛ وتتفکک کندا، في ظل تجدد مطالبات مقاطعات الغرب الکندي بالانفصال بعد الانتخابات الفيدرالية لعام 2020؛ نتيجة شعورهم بالإهمال الشديد من قبل حکومة الحزب الليبرالى، إذ يشکو المؤيدون للانفصال من دفع ضرائب کثيرة للحکومة بالعاصمة أوتاوا، في مقابل عدم حصولهم على ما يستحقونه من دعم مالى، ومن ثم؛ زادت شعبية حرکة ويکسيت التى تتزعم هذه المطالبات وتکتسب انصاراً يوما بعد يوم، ولکن الهدف ليس الاندماج أو رفع الظلم عن هذه المقاطعات، بل التمکن من تنظيم استفتاء يطالب بالاستقلال ( ).

ويفترض أنصار هذا السيناريو أنه من المحتمل أن يعود الصراع بين الکنديين الفرنسيين والکنديين الانجليز بشکل أعنف وتزداد التوترات بينهم ويطالب الکبيبکين مرة اخرى بانفصال کيبيک عن کندا خاصة بعد عودة الحزب الکيبيکي المطالب بالانفصال إلى السلطة عام 2012، فمن الملاحظ أن الوضع يتسم في الدولة الکندية بشئ من التعقيد؛ بسبب أن الصراع بين الکنديين الفرنسيين والکنديين الإنجليز هو صراع طائفي وصراع ثقافي ولغوي بجانب عودة جذور النزعة الانفصالية لکيبيک إلى الاستعمار الفرنسي والبريطاني لدولة کندا منذ القرن الثامن عشر والذي أدى إلى قيام دولة ثنائية الجنسية تواجه تحديات عديدة منذ نشأتها حتى اليوم.

نموذج استرشادي Guideline للانفصال

عقب استفتاء عام 1995، والذي فشل بأقل من واحد في المائة، أحالت الحکومة الاتحادية الکندية قضية انفصال کيبک إلى المحکمة العليا الکندية في محاولة منها لمعالجة القضية ( )، فلا يتناول الدستور الکندي صراحةً أي حق صريح للمقاطعات بالانفصال عن الاتحاد، ولا يسمح للسلطة المرکزية الکندية أن تمنح أي مقاطعة حق الانفصال، ولا توجد أية إجراءات محددة تحکم آلية الانفصال للوحدات السياسية الفرعية، وبدلا من ذلک، تکونت هذه القواعد الدستورية للانفصال في کندا بناءً على رأي المحکمة العليا الکندية بشأن شرعية انفصال مقاطعة کيبيک، في قرارها في 20 أغسطس عام 1998، الذي أشار إلى أن انفصال أي مقاطعة بما في ذلک إقليم کيبک من جانب أحادي يعد انتهاکًا للنظام الدستوري أي عمل غير دستوري، کما لا يمتلک إقليم کيبک الحق في الانفصال سواء بموجب القوانين الکندية أو الدولية، ولکن إذا صوتت کيبک بوضوح لصالح الانفصال، يتوجب على بقية کنـدا التفاوض بشأن شروط الانفصال مع کيبيک ليس بين الحکومة الاتحادية وإقليم کيبک ولکن مع جميع حکومات المقاطعات والأقليات ( )، فالانفصال يتطلب في النهاية التفاوض على تعديل القوانين الأساسية (الدستور) التي لم تنص على الانفصال ( ).

وترى المحکمة أن الانفصال يتطلب ثلاثة أمور:

1. إعلان استفتاء يظهر تصويت أغلبية واضحة لصالح هذا الانفصال ويعرب عن إرادة المواطنين في إقليم کيبيک بالانفصال، بناء على سؤال مصاغ بشکل واضح.

2. بجيب أن تدخل الحکومة الاتحادية وحکومات المقاطعات الکندية في مفاوضات مع إقليم کيبک تسترشد بأربعة مبادئ دستورية أساسية، وهي: الديمقراطية، الفيدرالية والتمسک بالمبادئ الدستورية وسيادة حکم القانون، وحماية حقوق الأقليات.

3. تمرير التعديل الدستوري على انفصال إقليم کيبک من خلال موافقة الحکومة الاتحادية والحکومات المحلية على هذا التعديل ( )، ولقد أنکرت المحکمة حق کيبک، في الانفصال من جانب واحد، ولکن في الوقت نفسه تمسکت بموقفها بأنه عندما تصوت أي مقاطعة کندية بأغلبية مطلقة تمامًا majority clear في أي قضية مصيرية واضحة question clear لصالح السيادة، فإن مسؤولية التفاوض السلمي، وبحسن نية تقع على عاتق کل من الحکومة الاتحادية والحکومة المحلية المعنية بالأمر. لذا، يجب على مثل هذه المفاوضات أن تتقيد بالإجراءات الدستورية، ولا يجوز لها أن تصادر الانفصال أو تحجر عليه من البداية، على الرغم من أن الانفصال قد يتطلب تعديلا دستوريا ما ( ).

- السيناريو الثاني: استبعاد استفتاء ثالث:

من المستبعد للغاية إجراء استفتاء ثالث على الاستقلال في المدى القصير إلى المتوسط، حيث وصل دعم الانفصال إلى أدنى مستوياته منذ عقود. في الواقع، خلافًا لتوقعات الانفصاليين منذ فترة طويلة، ولا يمکن الاعتماد على شباب کيبيک (18- 34 عامًا) لدعم الاستقلال اليوم، وحتى داخل الجيل الذي حمل المشروع الذي بدأ في السبعينيات، فإن دعم الانفصال وصل لأقل من 40٪، وعلاوة على ذلک، فإن کلا السياقين المحلي والدولي في الوقت الراهن أقل مواتاة لاستقلال کيبيک مما کان عليه عام 1995، فعلى الصعيد المحلي، في أعقاب إشارة من المحکمة العليا الکندية بشأن الانفصال يعطي الحکومة الفيدرالية إشراف الحکومة على مسألة الاستفتاء والأغلبية المطلوبة للفوز بـ "نعم" (على الرغم من أن کيبيک تعترض على ذلک)، وعلى الصعيد الدولي، باتت الحکومات الفرنسية أقل دعمًا لتقرير مصير کيبيک في السنوات الأخيرة، في حين أن التعقيد المتزايد لقضايا مثل مراقبة الحدود يعني أن الولايات المتحدة قد تکون أکثر دعمًا للوحدة الکندية عن ذي قبل ( ).

خاتمة:

ترجع جذور الصراع إلى اکتشاف فرنسا الجديدة وتحولها إلى مستعمرة بريطانية، ويمکن القول بأن الصراع القائم بين الکيبيکيين والکنديين من أيسر أنواع الصراعات الدولية؛ حيث يعتبر صراع سلمي لم يصل إلى حد الحرب ولم يهدد أمن البلاد ولم يعرض حياة أي من الطرفين للخطر، باستثناء حرکة جبهة تحرير کيبيک التي تم تفکيکها، لکن يظل مطلب الاستقلال موجوداً، غير أنه من الواضح أن هذا الصراع يعد من أعقد الصراعات المتجذرة أيضًا؛ حيث تشکلت الدولة الکندية بعد قيام الحروب والصراعات البريطانية والفرنسية على أراضيها لأکثر من مائة وخمسين عام؛ مما دفع إلى قيام دولة مزدوجة الجنسية والثقافة والطائفة، بالتالي، ظهور مصالح متضاربة بين الکنديين الفرنسيين والکنديين الإنجليز على مر العصور.

ومن الجدير بالذکر أنه يوجد انقسام داخل المجتمع الکيبيکي ذاته، بجانب الصراع بين الکيبيکين والکنديين، يکون هذا الانقسام بين الأحزاب السياسية وحکومة کيبيک وداخل الطبقة الکيبيکية الوسطى، ومن اللافت للانتباه بعد أن کان الکنديين الفرنسيين يشعرون بتهميشهم وحرمانهم من حقوقهم وحرياتهم، تولد شعور لدى الکنديين الإنجليز بأنهم أقلية مضطهدة داخل کيبيک الجديدة، والذي زاد من غضبهم تجاه القومية الکيبيکية، هو التحول من وضع النخبة المهيمن إلى کونهم أقلية مهددة ؛ ويرجع السبب في ذلک هو اهتمام الحکومة الکندية البالغ بالفرانکوفونية ومحاولة ارضاء حکومة کيبيک بتنفيذ العديد من السياسات التي تمکن الکنديين الفرنسيين مثل إقرار ثنائية اللغة بجانب منحهم العديد من المزايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلاد.

وأخيرًا، فلقد هدفت الحکومات الکندية المتعاقبة إلى إلغاء أي تمييز لصالح الکيبيک ومعاملتها کجزء عادي من الکل، وتفنيد إدعاءات کيبيک، بل وتعمد صهر أو انصهار الکيبيک بالمجتمع الکندي، إذ اعتبر الأکاديميون والسياسيون من کيبيک أن السبب الرئيسي وراء دعم التعددية الثقافية من قبل الدولة الکندية- ومعها ثنائية اللغة، وفيما بعد ميثاق الحقوق والحريات والمساواة الرسمية للمقاطعات- لم يکن کمنظور ضيق لدعم التنوع الثقافي، ولکن أيضًا استراتيجية لتوطيد الهوية الکندية وإنکار وجود دولة کيبيک، عن طريق التحول من الثنائية الثقافية إلى التعددية الثقافية بتبني استراتيجية وحدة وطنية تهدف إلى إضعاف قومية کيبيک ولإفشال الحرکة الانفصالية في کيبيک.

قائمة المراجع:

أولاً: المراجع باللغة العربية:

أ- الکتب:

1. أحمد وهبان، الصراعات العرقية واستقرار العالم المعاصر: دراسة في الأقليات والجماعات والحرکات العرقية، أليکس لتکنولوجيا المعلومات، الإسکندرية، 2007).

ب- مقالات:

1. أحمد محمد وهبان، النظرية الواقعية وتحليل السياسة الدولية من مورجنثاو إلى ميرشايمر "دراسة تقويمية"، المجلة العلمية لکلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، جامعة الإسکندرية، العدد 2، 2016.

2. أندريه لوکور، المناحي السياسية للدبلوماسية الموازية: دروس من العالم المتقدم، ترجمة: محمد کاظم الصالح، إيناس عبد السادة علي، المرکز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مجلة سياسات عربية، المجلد 2020، العدد 43 ، قطر، 31 مارس 2020.

3. معاوية سعيدوني، التعددية الثقافية الکندية في مواجهة التحديات وخصوصية مقاطعة "کيبيک"، عالم الفکر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، المجلد 44، العدد: 3، مارس 2016، الکويت.

4. محمد عباس محسن، هل تسمح الدساتير الديمقراطية بالانفصال من جانب واحد؟ مراجعة تأملية للنماذج الفيدرالية، مجلة الشريعة والقانون، کلية القانون، جامعة الإمارات العربية المتحدة، العدد 75، السنة الثانية والثلاثون، يوليو 2018.

ب- مصادر الکترونية:

1. إسلام عزام، کندا وتجدد مطالب انفصال مقاطعات الغرب، 3 فبراير 2020، متاح على: https://gate.ahram.org.eg/daily/News/749190.aspx

2. ترودو: يمکن لمقاطعة کيبيک تعديل جزء من الدستور الکندي، 20-5-2021، متاح على: https://gate.ahram.org.eg/News/2721800.aspx

3. هولاند يزور بلدية مونتريال الکندية بعد 47 عاما على زيارة شارل ديغول الشهيرة، فرانس 24، 05/11/2014، متاح على: https://bit.ly/386Oooj

ثانيًا: المراجع باللغة الإنجليزية:

A. Books:

1. André Lecours, Canadian Federalism and Foreign Relations: Quebec and Alberta, In: Ferran Requejo (ed.), David Criekemans ... [et al.], Foreign policy of constituent’s units at the beginning of 21st century, Generalitat de Catalunya, )Institut d'Estudis Autonòmics IEA, Barcelona, 2010(.

2. André Lecours, The Two Quebec Independence Referendums: Political Strategies and International Relations, In: Diego Muro and Eckart Woertz (Eds.), Secession and Counter-secession: An International Relations Perspective, Barcelona Centre for International Affairs (CIDOB), Barcelona, January 2018(.

3. Christian Lammert, Quebec: Between Founding Nation and Sovereignty, In: Karin Ikas (editor), Global Realignments and the Canadian Nation in the Third Millennium, (Harrassowitz Verlag, Germany, January 2010).

4. Julie McDonough, Translation during the 1980 and 1995 Independence Referenda in Canada, In: Anthony Pym, Alexander Perekrestenko (editors), Translation Research Projects 1, Intercultural Studies Group, Universitat Rovira i Virgili, Tarragona, Spain, 2007.

5. P. Robert Magocsi (ed.), Canadian identity: a francophone perspective», Encyclopedia of Canada's People, (Toronto, University of Toronto Press, 1999).

6. P. Robert Magocsi (ed.), Canadian identity: a francophone perspective», Encyclopedia of Canada's People, (Toronto, University of Toronto Press, 1999).

7. Piotr Nowak & Paweł Nowakowski (eds.), Quebec French – the Struggle for National Identity, Język, Komunikacja, Informacja (IJK) Language, Communication, Information, 4/2009.

8. Stéphane Paquin, Federalism and Multi-Level Governance in Foreign Affairs: A Comparison of Canada and Belgium, In: Ferran Requejo (ed.), David Criekemans ... [et al.], Foreign policy of constituents units at the beginning of 21st century, )Generalitat de Catalunya, Institut d'Estudis Autonòmics IEA, Barcelona, 2010(.

9. William Harrison Woodward, A Short History of the Expansion of the British Empire 1500 - 1902, Cambridge University Press, Second edition, 1902 .

B. Periodicals:

1. Christopher Kirkey, Stéphane Paquin & Stéphane Roussel, Charting Quebec’s Engagement with the International Community, American Review of Canadian Studies, 46:2, 2016.

2. David SELJAK, Why the Quiet Revolution was “Quiet”: The Catholic Church’s Reaction to the Secularization of Nationalism in Quebec after 1960, CCHA, Historical Studies, 62 (1996).

3. Fikry Muhammad Reza Al-Hasin & Demeiati Nur Kusumaningrum, The Matter of Quebec Movement: A Review on Canadian Domestic Politics, Nation State: Journal of International Studies, Vol. 3 No. 2, December 2020.

4. Isabel Wences, Quebec interculturalism: a version of Canadian multiculturalism or a model with an institutional structure? Convergencia Revista de Ciencias Sociales, No. 72, Universidad Autónoma del Estado de México UAEM, September 2016, available at: https://convergencia.uaemex.mx/article/view/4392

5. Jérémie Cornut, The special relationship transformed: The Canada–Quebec–France triangle after de Gaulle, American Review of Canadian Studies, 46(2), June 2016.

6. Kenneth McROBERTS, Competing Nationalisms: Quebec-Canada Relations, York University, Toronto Working Paperو no.107, Barcelona, 1995, available at: https://core.ac.uk/download/pdf/13283318.pdf

7. Margaret Polk, The Politics of Patriation: The Canada Act of March 1982, London Journal of Canadian Studies, 2019, 34 (2).

8. Shawn C. O’Connor, Intergroup Conflict: The Discursive Battle Over Quebec Independence, Journal of Social Issues, Vol. 54, No. 4, 1998.

9. Stéphane Paquin, Quebec–US Relations: The Big Picture, American Review of Canadian Studies, VOL. 46, NO. 2, 2016.

10. Stephen Sherlock & Adrienne Millbank & Susan Downing, Quebec and the Future of Canada, the Department of the Parliamentary Library, Parliament of Commonwealth of Australia, 1996, available at: https://bit.ly/3g4kB49

11. Tony McCulloch, A Quiet Revolution in Diplomacy: Quebec–UK Relations Since 1960, American Review of Canadian Studies Journal, 46:2, 2016.

C. Thesis:

1. Sarah Weber, Separatism in Quebec: Off the Agenda but Not Off the Minds of Francophones, Senior Honor Thesis, Department of Politics, College of Arts and Sciences, Brandeis University, 2015.

الهوامش