التنمية في افريقيا بين المنظورين الاسلامي والغربي

نوع المستند : مقالات سیاسیة واقتصادیة

المؤلف

کلية السياسة والاقتصاد جامعة بني سويف

المستخلص

الملخص:
تمثل الدراسة محاولة لعرض الافتراضات الأساسية الکامنة وراء التنمية من منظور إسلامي وتبحث بإيجاز بعض الأساليب الغربية للتنمية لأغراض المقارنة. حيث ترى الدراسة أن المنظور الغربي للتنمية فشل في فهم طبيعة الإنسان ککائن مادي وغير مادي. ولکن من منظور إسلامي، ينظر إلى التنمية على أنها عملية متکاملة تتضمن عمليات بناء طبيعة متوازنة للحياة الاجتماعية والبيئية والاقتصادية والروحانية. وذلک لأنها مساعي بشرية هادفة تهدف إلى تحقيق منافع مادية واضحة، ومنافع اجتماعية حقيقية، ورضا روحي على أساس مبدأ وحدانية الله (التوحيد). وبالتالي فإن التنمية هي عملية علاقات ثلاثية، أي العلاقات بين الإنسان والله، والإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة (البيئة).




Summary:
The study represents an attempt to present the basic assumptions underlying development from an Islamic perspective and briefly examines some Western methods of development for comparative purposes.
Where the study sees that the Western perspective of development fails to understand the nature of the human as a material and immaterial being .But from an Islamic perspective, however, development is seen as an integrated process that includes processes of building a balanced nature of social, environmental, economic and spiritual life.
This is because It is purposeful human endeavors aimed at achieving clear material benefits, real social benefits, and spiritual satisfaction based on the principle of the oneness of God (monotheism).
Thus development is a process of triangular relationships, that is, the relationships between man and God, man and man, and between man and nature (the environment).

الكلمات الرئيسية

الموضوعات الرئيسية


يعد مصطلح التنمية غامض، حيث يجادل البعض بأنه يتم تحقيق ذلک من خلال التغيير الاقتصادي من خلال عملية التحديث. بينما يرى آخرون أنه تغيير اجتماعي بسبب التحضر من خلال تبني أسلوب الحياة الحديث، کل ذلک تمت مناقشته من المنظور الغربي. بما أن الإسلام هو جسم موحد من الجوانب الروحية والزمنية على أساس الوحدة التوحيدية، فلا يمکن قبول هذا المفهوم الغربي للتنمية لفهم التنمية من منظور إسلامي. ومن ثم، فإن الأمر يتطلب إعادة تعريف مصطلح التنمية الذي يقوم کليًا على وجهة النظر الإسلامية. لفهم ماهية التطور في الإسلام، من المفيد فهم أفکار بعض المفکرين المسلمين حول موضوع التنمية والتغيير والتقدم.

حقيقة التنمية: استهلال مفاهيمي

يعد مفهوم التنمية Development من أبرز المفاهيم العالمية التي تم اعتمادها منذ منتصف القرن العشرين، وفقًا للخبرة الغربية، "الأورو-أمريکية"، کمدخل تأسيسي مُحّمل بدلالات قيمية للحديث عن عملية بناء نظم اقتصادية وسياسية متماسکة وفقًا لمعايير ثقافية خاصة جعلت من المنطلقات الغربية نموذجًا للکمال الإنساني، تسعى الدول المتقدمة من منظور المرکزية الأوربية ووريثتها الأمريکية، إلى فرضه باعتباره النموذج الأولى بالتطبيق لکل من أراد الارتقاء بشريًا ليتشابه، ولو شکليًا، مع النمط الغربي للحياة.

 

 

وقد برز مفهوم التنمية تنظيرًا وتطبيقًا، بصورة أساسية، إلى واجهة المشهد السياسي/الاقتصادي الدولي، منذ حقبة الحرب العالمية الثانية، حيث لم يکن هذا المفهوم يُستعمل منذ ظهوره في الربع الأخير من القرن الثامن عشر على يد الآباء المؤسسين لعلم الاقتصاد الغربي وعلى رأسهم الاقتصادي البريطاني البارز آدم سميث،

 إلا على سبيل الاستثناء، ليزيح هذا المفهوم عدة مفاهيم رئيسة کانت تستخدم في ذات السياق الارتقائي التطوري، أهمها؛ التقدم المادي Material Progress، والتقدم الاقتصادي Economic Progress، والتحديث Modernization، والتصنيع Industrialization.

ويمکن القول؛ إن علم الاقتصاد کان بمثابة الأب الشرعي لمفهوم التنمية، وفقًا للمنظور الغربي، حيث ولد المفهوم من رحمه للدلالة على عملية إحداث مجموعة من التغيرات "الجذرية" في مجتمع معين؛ بهدف إکساب ذلک المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لکل أفراده، بمعنى زيادة قدرة المجتمع على الاستجابة للحاجات الأساسية والحاجات المتزايدة لأعضائه؛ بالصورة التي تکفل زيادة درجات إشباع تلک الحاجات؛ عن طريق الترشيد المستمر لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة، وحسن توزيع عائد ذلک الاستغلال، بما يشکل جوهر الفلسفة الرأسمالية الغربية بأطرها التطبيقية المختلفة.

 

 

وهنا يکمن التمايز الفلسفي القيمي للتنمية بين المنظورين الغربي والإسلامي، فالاقتراب الإسلامي لمفهوم التنمية ينطلق من لفظته البنيوية المشتقة من الفعلين؛ "نما"، يَنمو، انْمُ ، نماءًا ونُمُوًّا ، فهو نامٍ، بمعنى الزيادة والانتشار، و"نمّى"، ينمي، نميًا ونماءًا ونمية، بمعنى الزيادة والکثرة والوفرة، ومن ثم فالتنمية من المنظور الإسلامي ذاتية تدرجية نابعة من ذات الشئ وکينونته، بما يحمل بين طياته احترامًا للخصوصيات واعترافًا بحقيقة الاختلاف والتعدد التي برأ الله الکون عليها، بخلاف المنظور الغربي القائم على التغيير الجذري، الذي هو تدخل جراحي خارجي للتغيير بناءًا على رؤية المتدخل الغالب أو المهيمن.

ولعل ما يبرز هذا المعنى ويؤکده، انتقال مفهوم التنمية من حاضنته الاقتصادية إلى حقل السياسة، منذ النصف الثاني من القرن المنصرم، حيث ظهر کحقل علمي بيني مستقل يعنى بتطوير وتحديث البلدان "غير الأوروبية" نحو الديمقراطية، حيث باتت التنمية بمفهومها السياسي تعني "عملية تغيير اجتماعي متعدد الجوانب، غايته الوصول إلى مستوى الدول الصناعية/الغربية"، وهو منظور استعلائي يدعي التميز والفوقية وينفي التعدد والخصوصية التي يراعيها ويؤکد عليها المفهوم الإسلامي للتنمية.

وبشکل عام، يتسم المفهوم الغربي للتنمية بعدة سمات جوهرية تمثل لب الفلسفة الرأسمالية بتطوراتها العولمية الراهنة؛ تتمثل في([1]):

  • غلبة الطابع المادي على الحياة الإنسانية، حيث تقاس مستويات التنمية المختلفة بالمؤشرات المادية البحتة.
  • نفي وجود مصدر للمعرفة مستقل عن المصدر البشري المبني على الواقع المشاهد والمحسوس؛ أي بعبارة أخرى إسقاط فکرة الخالق من دائرة الاعتبارات العلمية.
  • إن تطور المجتمعات البشرية يسير في خط متصاعد يتکون من مراحل متتابعة، کل مرحلة أعلى من السابقة، وذلک انطلاقًا من اعتبار المجتمع الأوروبي نموذجًا للمجتمعات الأخرى ويجب عليها محاولة اللحاق به.

إن مفهوم التنمية في المنظور الإسلامي يُعبر عن الزيادة المرتبطة بالطهارة والبرکة وأجر الآخرة، وإن لم يتجاهل مع هذا "الحياة الطيبة" في الدنيا، تنمية الإنسان، وتنمية العمران، في حين يجنح مفهوم Development إلى البعد الدنيوي الخالص، دون أي مقومات روحية أخروية، من خلال تنميط المجتمعات وفقًا لمؤشرات مادية في مجملها، جلها اقتصادي، حتى ولو تسربل بنکهة إنسانية زائفة، من خلال تکميم المجتمعات الإنسانية وتحويلها إلى جملة من الأرقام والإحصاءات، تخلو من أي روح إنسانية، تهتم بالنجاح التقني ولو کان مدمرًا للبيئة ولنسيج المجتمع، وتؤکد على التنظيم الاجتماعي ولو أدى إلى سحق وتهميش الآخر؛ الثقافي والحضاري.

 

ومن ذلک يمکن القول إن جوهر التنمية في المفهوم الإسلامي، ذو وجهين؛ أولهما: هو تنمية الإنسان نفسه، وليس مجرد تنمية الموارد الاقتصادية المتاحة لإشباع حاجاته، ومن ثم هي تنمية قيمية تهدف إلى تکوين الإنسان الصالح، خليفة الله في الأرض، الذي يشکل نواة المجتمع الإيماني القويم،

والذي ينظر إلى التقدم المادي من منطلق الاستخلاف في الأرض، التي سيحاسب عليها أمام الله تعالى، وثانيهما: يتمثل في العمران، وهو الجانب المادي الحضاري للتنمية، والذي يتجاوز کونه عملاً دنيويًا خالصًا، لأن يصبح في الأخير عملاً تعبديًا فيه طاعة لله عز وجل وطلبًا لآخرته کذلک.

التنمية بين مقتربات التحديث والتبعية

على المستوى الأکاديمي التنظيري في المجتمع البحثي ثمة مادة ثرية للنقاش والجدل العلمي حول مقتربات التنمية الرئيسة Development Approaches التي سادت في المنظومة الدولية منذ ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، منتصف القرن الفائت، وفي هذا الإطار ثمة اتجاهان نظريان لتفسير ظاهرتي التنمية والتخلف في المجتمعات الإنسانية الحديثة([2])، يتنافران منهجيًا وأدواتيًا لاعتبارات الحاضنة الأيديولوجية لکل منهما، يندرجان تحت عنوانين جامعين؛ هما: التحديث Modernization والتبعية Dependency وقد يکون الاتجاه الثاني ردة فعل بالأساس على مقولات الاتجاه الأول، والتي نبتت في سياق التفسيرات الليبرالية الغربية للتنمية المجتمعية، وربطها بسياقات قيمية لافتة، تعتمد على خطاب ومقولات المرکزية الأورو-أمريکية السائدة خلال المائة عام الماضية.

تستند نظريات التحديث إلى التصنيفات الثنائية الکبرى والتي ظهرت في القرن الماضي، لا سيما ثنائية الألماني تونيز Tonnies والفرنسي دور کايم Durkheim، التي قسمت المجتمعات وعناصرها البيئية والاجتماعية إلى مجتمعات حديثة Modern وأخرى تقليدية Traditional، انتظمت تحتها مؤشرات ديموجرافية واقتصادية وتکنولوجية وسياسية وقيمية وثقافية عدة([3])، تم اعتمادها کأساس لهذا التصنيف على الدول والمجتمعات الإنسانية، وقد نشأ وتطور الاتجاه التحديثي للتنمية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين على يد عدد من علماء الاجتماع والاقتصاد الأمريکيين؛ أبرزهم تالکوت بارسونز Talcott Parsons.

وتتلخص مقولات نظريات التحديث في إعطاء أهمية کبيرة للجوانب السوسيولوجية والسيکولوجية والاقتصادية في التنمية، مع التأکيد على أنظمة القيم والدوافع الفردية وتراکم رأس المال کشروط لازمة للتغير الاجتماعي والتحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، وفقًا لمؤشرات التصنيع والتحضر والحريات الفردية واقتصاد السوق وتشجيع القطاع الخاص وبناء المجتمع المدني، ومن ثم فإن انتشار خصائص التحديث، والتي تمتاز بها المجتمعات الغربية المتقدمة، وانتقالها إلى البلدان النامية، هو شرط لحصول تلک الدول على الفرصة المناسبة للتحول إلى مجتمعات حديثة واللحاق برکب الحداثة الغربية،

کل ذلک في سياق سياسي يقوم على المشارکة الشعبية في الحکم واستبدال أنماط السلطة التقليدية بنظام عقلاني قانوني وإيجاد حکومات وطنية قائمة على الانتخابات البرلمانية کضمانة لتداول السلطة وتمثيل کافة أطياف المجتمع([4]).

أما نظريات التبعية، فقد انطلقت من سياقات بحثية وفکرية في أمريکا اللاتينية خلال ستينيات القرن العشرين، قبل أن تنتقل إلى فعاليات بحثية وأکاديمية وفکرية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريکية ودول أخرى، کردة فعل ونتيجة منطقية لعدم نجاح نموذج نظريات التحديث في تقديم تفسير حقيقي کاشف لظاهرة التخلف في دول العالم الثالث، حيث حاولت دراسات التنمية القائمة على المدخل التحديثي أن تبرهن على أن التخلف هو حالة ذاتية متأصلة في تلک الدول، ناتجة عن طبيعة البنى الاجتماعية فيها، ولم تنتج عن الاستعمار، بل هي موجودة قبل الاستعمار ومستمرة بعده کذلک، ومن ثم فقد جاءت اقترابات التبعية کردة فعل على مقولات وأطروحات اقترابات التحديث.

وتنطلق مقولات مقتربات التبعية من فرضية مفادها أن حالة التخلف وما ينتج عنها من إشکاليات وأزمات في الدول المتخلفة والأقل نموًا، هي بالأساس إحدى منتجات الحقبة الاستعمارية، تفسر حالة التخلف الاقتصادي والسياسي من منطلق الظروف التاريخية التي مرت بها بلدان العالم الثالث، ووقوعها تحت السيطرة الاستعمارية للنظام الرأسمالي العالمي،

 

 کما أنها تعتبر أن هناک علاقة جدلية بين التنمية والتخلف، وبين الحداثة والتقليدية، وبين مختلف الظواهر بشکل عام، بمعنى آخر؛ اعتبرت مقولات التبعية أن التنمية التي حدثت في العالم الرأسمالي المتقدم کانت على حساب الدول المستعمرة، وأن الوجه الآخر لتلک التنمية هو تخلف دول العالم الثالث، ووقوعها في براثن التبعية والسيطرة الرأسمالية([5]).

وفقًا لذلک الاقتراب، فإن الدول الغربية، دول المرکز، تمارس هيمنتها على الدول غير المرکزية، الدول الأطراف، سواء من خلال حکوماتها التابعة، سياسيًا وعسکريًا واقتصاديًا، أو من خلال المؤسسات المالية العالمية، التي تعد بمثابة الأذرع المالية للقوى الغربية المهيمنة، مثل البنک الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من المنظمات وکذلک الشرکات المتعددة الجنسية، التي تعمل باتجاه تعطيل الإرادة الوطنية للدول التابعة وفقدانها لشروط إعادة تکوين ذاتها والتوجه نحو التقدم والخروج من براثن التخلف والتبعة، الأمر الذي يؤدي إلى استمرار وديمومة سيطرة الدول المتقدمة على الدول النامية، وإبقاء الأخيرة في دائرة التبعية للهيمنة الغربية([6])، وهو ما يثير التساؤلات بشأن مدى قدرة الدول غير الغربية على إنتاج نموذجها التنموي الخاص والمستقل والمتسق مع أطرها القيمية والثقافية والحضارية.

 

إشکالية بنيوية: بين الاعتمادية والذاتية

ثمة جدل أکاديمي محتدم بشأن التنظير الاقتصادي لجدوى اعتماد الدّول الإفريقية في تحقيق التنمية المستدامة Sustainable Development اعتماداً على الدّعم الخارجي متمثلاً في المساعدات الأجنبية الإنمائية، سواء على مستوى الدّول أو على مستوى المنظّمات والهيئات والکيانات الاقتصادية المختلفة، وسواء أخذت هذه المساعدات شکل المنح والهبات النقدية أو العينية أو الفنية، أو أخذت شکل القروض الميسّرة لآجال ممتدة ما بين المَدَيين المتوسط والطويل. ولا يخفّف حدّة ذلک الجدل ما إذا کانت تلک المعونات مشروطة أو غير مشروطة، في إطار ثنائي أو في إطار جماعي، إقليمي أو دولي.

وفي هذا الإطار؛ توجد مدرستان متضادتان في رؤيتيهما لجدوى الاعتماد على الدّعم الخارجي في استراتيجيات التنمية؛أولاهما: ترى أن دور الداعم الخارجي، المانح أو المساعد أو المقرض أو حتى المدرّب والمشرف، في إطار إيجابي محض، قد ينحو إلى المثالية السياسية، وتستند هذه المدرسة إلى  ما يُعرف بـ «نظرية المکمّل»، والثانية: تنظر إلى الدور الخارجي في إطار سلبي، استناداً لمقتضيات الواقع المنظور وممارساته، وتبني هذه المدرسة رؤيتها السلبية تلک على ما يُعرف بـ «نظرية البديل».

 

وتنهض "نظرية المُکمّل" بالأساس على اعتبار أن الدور الخارجي في التنمية المستدامة ذو أثر إيجابي في اقتصاديات الدول المتلقّية والممنوحة؛ حيث يؤدي الخارج دوراً مهماً ورئيساً في سدِّ عجز الموارد المحليّة للدول النامية، والتي دائماً ما تعجز عن تحقيق معدلات النّمو المرغوبة أو المبتغاة، ومن ثم، فالاعتماد على الخارج لا غضاضة فيه کبداية للنهضة، والوصول إلى الاعتمادية الذاتية للتنمية المستدامة في الأجل الطويل([7]).

في حين تقوم "نظرية البديل" على فرضية مضادة لـ «نظرية المکمّل»، حيث تترکز المقولة الرئيسة لهذه النظرية على فرضية أن الاعتماد على الدور الخارجي يُعد بمثابة البديل المريح للموارد المحليّة في الدول المتلقّية؛ حيث يؤثر ذلک البديل الجاهز والمتوافر سلباً في تکوين المدّخرات المحليّة، کما يؤدي إلى زيادة النفقات الاستهلاکية للحکومات المتلقّية فيما لا طائل من ورائه، کما ينتهي في الأخير إلى عدم الکفاءة الاقتصادية، بما يُحدثه من تطبيق لبرامج تقنية وإدارية غير مناسبة للدول المتلقّية، ما يعني في نهاية الأمر عدم القدرة على تحقيق التنمية الحقيقية المنشودة التي تقوم على الاستدامة وتوطين التنمية([8]).

 

 

 

بين الوَهْم والصِفرية: "نظرية المُکمّل" و"الإرادة القومية"

ولعل واقع العلاقات الدولية إبّان حقبة الحرب الباردة، قد مثّل المناخ المناسب لسيادة "نظرية المکمّل" في إفريقيا خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث کانت هذه النظرية هي الإطار الرئيس لفلسفة علاقات ما يُعرف بالتعاون بين الدول الإفريقية من جهة والدول الغربية المستعمرة السابقة للقارة من جهة أخرى، بيد أن العيوب الجوهرية في تلک النظرية وعدم اضطلاعها بالإجابة عن کثير من التساؤلات بشأن تحقيق التنمية المستدامة، وعدم جدواها التنموية في الأجلين المتوسط والبعيد، على الرغم من مرور عقود طويلة خلت، قد ساهمت بشکل کبير في بروز وتطوّر "نظرية البديل" بوصفها مناقضاً لجوهر ما قامت عليه "نظرية المکمّل"، ومن ثم جاءت في سياق التحذير من استمرار اعتمادية الدول الإفريقية على مساعدات الدول الکبرى الإقليمية والدولية، وأذرعها الاقتصادية الدولية من منظمات وهيئات مانحة ومقرضة([9])، هذا من الناحية الاقتصادية.

أما من الناحية السياسية؛ فثمة إطار آخر للتحليل ينبغي الالتفات إليه ووضعه في الحسبان عند الحديث عن «نظرية المکمّل»، ألا وهو «سببية المساعدة»، أو لماذا تتبارى القوى الکبرى وأذرعها الاقتصادية والمالية الدولية في تقديم المساعدات والدّعم المالي والفني لدول القارة السمراء؟

وهنا تبرز «نظرية المباريات» Game Theory بوصفها إطاراً تفسيرياً للإجابة عن تساؤلات الدوافع والأهداف المتعلقة بحرص الخارج - غير الإفريقي - على تقديم المساعدات الإنمائية للقارة، فقد اعتبر بعض الباحثين الاقتصاديين، ومنهم الأمريکي «توماس شيلينج» Thomas Cr. Schelling، في تحليلهم لنوعية العلاقات التي تنشأ بين (المانح والمتلقّي) من الدول، إلى صيغة المباريات غير الصفرية non zero-sum games، والتي تعني أن علاقة الدول المانحة بالدول المتلقّية ليست علاقة صفرية، طرف يمنح لاعتبارات إنسانية مزعومة، وطرف يتلقَّى لإحداث الفارق في بنيته التنموية فحسب، وإنما هي علاقة تبادل منافع، أو مقايضة شيء بشيء آخر، أي علاقة تحکمها المصالح بشکل رئيس، کلا الطرفين يمنح ويتلقّى، ولکن الاختلاف بينهما يکون في الکيف والنوع ([10]).

 

 

وقد خلص ديفيد بيم David Beim في تحليله للعلاقات الدولية القائمة على ثنائية «المانح - المتلقّي» إلى أن المساعدات الخارجية تحقّق للدول المانحة عدداً من الأهداف والمکاسب، تفوق ما تحقّقه الدول المتلقّية، والتي لا تحقّق من الأهداف إلا ما يصبّ - في الأخير - في مصلحة الدول المانحة.

ويمکن تلخيص أبرز ما تحصل عليه الدول المانحة عبر بوابة المساعدات الإنمائية في أربع نقاط رئيسة، تتضح بجلاء في ضوء خبرة التنافس (الأمريکي – السوفييتي) إبّان حقبة الحرب الباردة([11]):

  • المساعدات الخارجية تؤدي إلى نشأة علاقة صداقة، وتوطّد علاقة المانح بالمتلقّي، ويُعد هذا الدافع هو الأوضح والأکثر مباشرة، على الرغم من أنه لا يُعد هو الأهم على الإطلاق لبسط النفوذ؛ ولهذا يُشار إلى هذا الدافع على أنه دافع تکتيکي وليس دافعاً استراتيجياً، حيث إنه لا يضمن بالضرورة استمرار علاقة الصداقة على المدى البعيد.
  • وبتطوّر الأمر تصبح المساعدات الأجنبية لا غنى عنها للدول المتلقّية، باعتبارها جهاز التنفس الاصطناعي الذي يضخ الأموال والهبات لاقتصادها الهش العليل، ومن ثم تغدو خاضعة لسيطرة الدول المانحة، ومعتمدة عليها بشکل کبير، على نحو تصبح معه تلک الدول أسيرة الوعد باستمرار المساعدات، والتهديد بقطعها، في إطار سياسة «العصا والجزرة»، والأکثر من ذلک أنها تجعلها طيّعة للدول المانحة، وسهلة الانقياد لأي اتفاقيات ثنائية مع الدولة المانحة مهما کانت ماسّة بسيادتها واستقلالها الوطني.
  • وهذا الهدف يمکن أن يُصنّف ضمن الأهداف التکتيکة أو الاستراتيجية، فلو أن الدولة المانحة قامت بتقديم مساعدة أو منحة تحتاج إليها الدولة المتلقّية بشکل ملحّ، مقابل تنازل معيّن، أشبه ما يکون بالرشوة، فإن الهدف في هذه الحالة يکون تکتيکياً، أما حين يتم استخدام أداة المعونات والمساعدات لخدمة هدف استراتيجي؛ فإن الدولة المانحة هنا، على الأرجح، تحاول جذب الدولة المتلقّية لاختراق نظامها الاقتصادي، وإقامة علاقات قوية تربط اقتصاد الدولة المتلقّية باقتصاد الدولة المانحة، وفي مثل هذه الحالة لا بد أن تکون المساعدات مغرية وکبيرة الحجم، حتى تنجح في ربط الدولة المتلقّية بالدولة المانحة، وغالباً ما ترکّز الدولة المانحة، لتحقّيق هذا الهدف، في قطاع الصناعات الثقيلة، وتنطلق منه إلى إبرام اتفاقات تجارية، وإطلاق مبادرات تبادل ثقافي، من أجل ارتباط أکبر من قِبل الدولة المتلقّية بالدولة المانحة على کلّ المستويات.
  • کذلک فإن المساعدات الأجنبية قد توجِد حليفاً «أيديولوجياً» على المدى البعيد، أو ما يمکن وصفه بالحليف «الاستراتيجي» في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، إذا ما افترضنا تراجع التحليل الأيديولوجي للعلاقات الدولية الراهنة في ظل تنامي استحقاقات العولمة، والأحادية القطبية أو شبه الأحادية، في النظام الدولي ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق

 

  • وأخيراً؛ قد تنعکس المساعدات الخارجية على الدول المانحة بفوائد عسکرية، مع ملاحظة أن تلک الفوائد العسکرية قد لا تکون نتاجاً لمعونات عسکرية قُدّمت للدول المتلقّية للمعونة، بمعنى إنه قد تقدِّم دولة ما من الدول المانحة معونة أو مساعدة غير عسکرية لدولة متلقّية من أجل بلوغ أهداف عسکرية، بينما قد تقدِّم تلک الدولة معونات عسکرية من أجل بلوغ أحد الأهداف الثلاثة الأولى سالفة البيان.

إذن وباختصار؛ فإن "نظرية المکمّل" التي تسوّغ لاعتمادية الدول الإفريقية على الخارج "غير الإفريقي"، أو الغربي بالأساس، بوصفه عاملاً مساعداً أو محفّزاً لتدشين استراتيجيات التنمية المستدامة في القارة، ما هي في الأخير إلا وَهْم کبير!

ومن ثم؛ فإن اعتماد دول القارة على الخارج، المانح والمليء، يمسّ - أول ما يمسّ - بأحد أهم مرتکزات بناء قوة الدولة بمفهومها الاستراتيجي الشامل، متمثلاً في الإرادة القومية، بما يجعل دول القارة مجرد تابع للآخر (المانح والمساعد)، تتلقَّى هباته ومساعداته بدعوى التنمية، التي أبداً لم تتحقّق، والمقابل تبعية القرار السياسي والاقتصادي؛ وصولاً إلى الثقافي والاجتماعي، وحتى العسکري واللوجيستي.

 

 

 

ويُقصد بـ"الإرادة القومية" Will to Pursue National Purpose، بوصفها محدّداً رئيساً لقوة الدولة: "مجموعة العوامل التي تشکّل في مجموعها إرادة الدولة وقدرتها على اتخاذ قرارها السياسي والاستراتيجي بدافع من الذاتية والاستقلالية"([12]).

ومن ثم فهي تتجسّد في ثلاثة عناصر رئيسة، هي: القيادة السياسية، والأهداف الاستراتيجية، وحجم القاعدة العلمية؛ بوصفها خياراً استراتيجيًا للدولة لإقامة بنيتها التنموية،وينبثق عن کلِّ عنصر من هذه العناصر الثلاثة مؤشرات عدة، تشکّل في مجملها صورة تقريبية عن مدى استقلالية «الإرادة القومية» للدولة، وهذه المؤشرات هي([13]):

1- قدرة الدولة على تعبئة الموارد الذاتية، ودرجة استجابة الدولة لحاجات الشعب الأساسية،

2- نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي، وصافي الميزان التجاري،

3- نسبة المعونات الخارجية إلى إجمالي الناتج المحلي

4- وترتيب الدولة في تقارير التنمية البشرية

 

5- ترتيبها في مؤشر مدرکات الفساد،

6- نسبة الاستثمارات الأجنبية إلى الناتج المحلي،

7- نسبة الصادرات من إجمالي الناتج المحلي،

8- نسبة الاکتفاء الذاتي من القمح

9- نسبة الإنفاق على البحث العلمي

10- نسبة الصادرات مرتفعة التقانة من إجمالي الصادرات

11- إجمالي الأعمال المنشورة في مجالات البحث العلمي المختلفة

12- نسبة العلميين إلى مجموع السکان في الدولة.

وفي سياق هذه المقدمة المفاهيمية، التي تؤصل لمفردات التنمية والتنمية المستدامة، والتحديث والتبعية، والمنظور الغربي والمنظور الإسلامي، فإن الدراسة ستستفيد من المؤشرات الکمية التي تعتمدها مقتربات التنمية الغربية، لتحليل الفجوات التنموية الحاصلة في الدول والمجتمعات الإفريقية،

 

 

کما ستستفيد کذلک من المدخل القيمي الإسلامي للتنمية، والذي يعلي من شأن تنمية الإنسان باعتبارها المدخل الرئيس لتنمية العمران. ومن ثم فهي تمزج بين کلا المنظورين، على الصعيد الإجرائي لا القيمي، وذلک لتحقيق التراکم العملي والاستفادة من الحضارات والثقافات الأخرى في سياق التلاقح بين الخبرات الإنسانية الرامية إلى إعلاء الإنسان کقيمة لا إلى تسليعه أو تنميطه وقولبته في قوالب أيديولوجية جامدة.



[1]- نصر محمد عارف، نظرية التنمية السياسية المعاصرة، فرجينيا، المعهد العالمي للفکر الإسلامي، 1992، ص 39.

[2]- for more details; Bill Hopwood, Mary Mellor and Geoff O’Brien, Sustainable Development: Mapping Different Approaches, Sustainable Cities Research Institute, University of Northumbria, Newcastle on Tyne, UK, 2005, pp. 38-52.  

[3]- لمزيد من التأصيل انظر: محمود الذوادي، "حرکة التغيير الاجتماعي في فکر ابن خلدون وعلماء الاجتماع الغربيين الأوائل"، ورقة بحثية مقدمة لمؤتمر: عبد الرحمن بن خلدون قراءة معرفية منهجية، کلية الآداب جامعة عين شمس، القاهرة، 5-6 أغسطس 2000.

[4]- Adam Przeworski and Fernando Limongi, "Modernization: Theories and Facts", World Politics, Vol. 49, No. 2 (Jan., 1997), pp. 155-183

[5]- Vincent Ferraro, "Dependency Theory: An Introduction," in The Development Economics Reader, Giorgio Secondi, (ed.), London, Routledge, 2008, pp. 58-64.

[6]- Emeh Ikechukwu Eke Jeffrey, "A Discourse on Andre Gunder Frank’s Contribution to the Theory and Study of Development and Underdevelopment; Its Implication on Nigeria’s development situation", in: Greener Journal of Biological Sciences, Vol. 2 (3), November 2012, p. 52-60.

[7]- Paul Bowles, “Foreign Aid and Domestic Savings in Less Developed Countries: Some Tests for Causality”, World Development, Vol. 15, No. 6, June, 1987, p. 789.

[8]- Pradumna B. Rana, J. Malcolm Dowling, “THE IMPACT OF FOREIGN CAPITAL ON GROWTH: EVIDENCES FROM ASIAN DEVELOPING COUNTRIES”, The Developing Economies, Volume 26, Issue 1, March 1988, Pp. 3 – 11.

[9]- لمزيد من التفصيل بشأن الجدل الأکاديمي حول نظريات المساعدات الاقتصادية الأجنبية، انظر:

- أنور محمود عبد العال: الآثار الاقتصادية الکلية للمعونات الأمريکية على الاقتصاد المصري ودورها في الإصلاح الاقتصادي 1975م - 1996، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، کلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1999م، ص ص 8 - 18.

- علي محمد علي محمود: المساعدات الاقتصادية المدنية الخارجية لمصر وآثارها على الاقتصاد المصري خلال الفترة 1991 – 2004، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، کلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2008.

- Fredrik Erixon, "Why Aid Doesn't Work", B.B.C World, 11 September 2005, available at: goo.gl/6aWl08

[10]- Raymond F. Hopkins, "Political Economy of Foreign Aid" in:  Foreign Aid Development: Lessons Learnt And Directions For The Future, Routledge, 2000, p.p. 423-449.

[11]- David Beim, The Communist Block and the Foreign Aid Game, University of Utah on behalf of the western Political Quarterly, Vol. 17, No. 4, 1964, Pp. 785  -788.

[12]- للمزيد بشأن الإرادة القومية کأحد عناصر القوة الشاملة للدولة، انظر:

- Ray S. Cline, World Power Trends and U.S. Foreign Policy for the 1980's, Boulder CO: West View Press, 1980.

[13]- لمزيد من التفصيل بشأن تلک المؤشرات، انظر: جمال زهران: منهج قياس قوة الدولة واحتمالات تطوّر الصراع العربي الإسرائيلي، بيروت، مرکز دراسات الوحدة العربية، 2006م.